يأبى الدكتور أيمن فؤاد سيد (رئيس الجمعية التاريخية) إلا أن يقتحم مسلمات اعتدنا أن نعتبرها دون تدقيق من صحيح علم التاريخ. وقد فعلها مرات وأثبت مقدرة فائقة فى إحاطة مسلمات بكثير من إيضاحات أحبطت استسهال بعض المؤرخين والكتاب فى تناول بعض وقائع تاريخنا. وفى دراسة ممتعة نشرها د.أيمن فى المجلة التاريخية المصرية منذ أشهر قليلة جعل عنوانها «الجامع الأزهر.. تاريخه وتطوره»، نجد أنفسنا أمام بحث تاريخى شديد الإتقان يهز مسلمات عديدة حول تاريخ الأزهر كجامع وكمؤسسة تعليمية وعلمية. ونبدأ: «الجامع الأزهر أول جامع أسس بالقاهرة الفاطمية بناه القائد الفاطمى جوهر الصقلى (وليس الصقلبى) وافتتح للصلاة يوم الجمعة 7 رمضان 361هـ. وعرف فى بداية الأمر باسم جامع القاهرة (نقلاً عن المسبحى- أخبار مصر- جزء 41، ونقل عنه المقريزى فى «المواعظ والاعتبار»)، واستمر اسمه كذلك حتى انتهى الحاكم بأمر الله من بناء جامع جديد سماه «جامع الخطبة» ثم سُمّى «الجامع الأنور»، ولأن الأئمة الفاطميين اعتادوا صيغة أفعل التفضيل لتسمية مساجدهم فسموا «الجامع الأقمر» والجامع الأفخر (وسمه الآن جامع الفكهانى بالغورية)، فقد سُمى جامع القاهرة «الجامع الأزهر». وكانت بداية التدريس فيه عام 365هـ-975م أى بعد ثلاث سنوات من وصول المعز لدين الله إلى مصر. وقد بدأت أول حلقة للتدريس بدروس للقاضى على بن النعمانى وأملى فيها مختصر أبيه فى الفقه عن أهل البيت.
وفى 378هـ-988م استأذن الوزير يعقوب بن كاس الإمام العزيز بالله فى تنظيم حلقة تضم سبعة وثلاثين فقيهاً كانوا يتحلقون كل يوم جمعة يتكلمون فى الفقه ورتب لهم أرزاقاً، وكما يقول «المقريزى»: «وهى أول مرة يقام فيها درس فى مصر بمعلوم جارٍ من السلطان، بينما كان جامع عمرو بن العاص بالفسطاط هو مركز الحياة العلمية طوال القرون الثلاثة الأولى للإسلام ثم أصبح مركز المقاومة السنية طوال العصر الفاطمى وتمترس فى المسجد العتيق (عمرو بن العاص) فقهاء الشافعية والمالكية والحنفية وبلغت مجالس العلم فيه 110 مجالس (المقدسى- أحسن التقاسيم فى معرفة الأقاليم)، وتجمع فيه الفقراء والغرباء وطالبو العلم والمقرئون، ووصل عددهم خمسة آلاف شخص. حتى جاء السلطان الناصر صلاح الدين بن أيوب فأوقع بأمراء الدولة وعساكرها وأزال حكم الشيعة وأنشأ مدارس بالفسطاط للفقهاء الشافعية والمالكية وعزل كل قضاة الشيعة، وتولى عبدالملك الهذبانى الشافعى أمر القضاء فى مصر. ويقول المقريزى: «واختفى مذهب الشيعة والإسماعيلية والإمامية حتى فقد من مصر».
وفور تولى الهذبانى القضاء أفتى بامتناع إقامة أكثر من خطبة جمعة فى بلد واحد فأبطل الخطبة من الجامع الأزهر لأنه مركز للدعوة الإسماعيلية، وهكذا تعطلت خطبة الجمعة من الأزهر قرابة المائة عام بما أدى إلى هجر الأزهر وتصدع جدرانه وأسقفه وهدمت أبوابه إلى أن أعادها الظاهر بيبرس فأصلحه وسمح بإقامة خطبة الجمعة فيه وأقيم فيه درس لجماعة من الفقهاء على مذهب الإمام الشافعى. وفى عهد السلطان المؤيد شيخ المحمودى احتشد فى ساحات الأزهر فقراء وعجم وفلاحون ومغاربة بلغ عددهم 750 ولكل طائفة رواق باسمهم حتى طردهم من الجامع الأمير سودوت القاضى حاجب الحُجّاب. وهنا يصبح بإمكان د.أيمن أن يصارحنا برفضه لإحدى المسلمات فيقول: «ويتضح من ذلك أنه لم يكن للجامع الأزهر دور تعليمى مهم طوال العصر المملوكى إنما كانت تقوم بهذا الدور مجموعة المدارس التى أقامها سلاطين المماليك وكانت تدرس فيها علوم القرآن والحديث واللغة والنحو والفقه على المذاهب الأربعة والعقيدة الأشعرية. وكانت المدارس تقدم جرايات لطلبتها وأماكن لإعاشة الطلبة ومرتبات للمدرسين. ثم عادت الحياة إلى الجامع الأزهر إلى أن مدت الدولة العثمانية سطوتها على المناطق التى سُميت فيما بعد (العالم العربى). ثم عرف الأزهر فى نهاية القرن الحادى عشر الهجرى منصباً سُمى «شيخ الإسلام» ثم تحول الاسم إلى «شيخ الأزهر». ثم كانت الحملة الفرنسية (1213هـ) وانهزام قوات الأمير المملوكى مراد بك وانسحبت قوات المماليك من القاهرة تاركة القاهرة تحت رحمة الفرنسيين، وهنا برز دور جديد للأزهر ليصبح القيادة الشعبية والوطنية ونجح شيوخ الأزهر وعبر تفاوض شاق مع الفرنسيين فى الاتفاق على تشكيل «ديوان» لحكم القاهرة من تسعة شيوخ يرأسهم الشيخ الشرقاوى شيخ الأزهر.. شيوخ أزهريون كانوا يستشعرون رفضاً لمبدأ احتلال الفرنسيين لوطنهم، وتشكلت لجنة سرية للثورة داخل الأزهر قادت ثورة القاهرة الأولى (1798) فاحتل الفرنسيون الجامع بخيولهم وضربوه بالمدافع فهدموا أجزاء كبيرة منه. وبعد جلاء الفرنسيين ساند شيوخ الأزهر محمد على باشا ووجهوا رسائل للسلطان العثمانى سليم الثالث لدعم محمد على. ومع عهد الخديوى إسماعيل بدأ الأزهر يتلقى موجات تحررية (جمال الأفغانى ومحمد عبده) وتواصلت نفحات التجديد ولكن دون جدوى ففى الفترة من 1899 وحتى 1925 كان عدد الطلبة المسجلين عشرة آلاف لم يحصل على شهادة العالمية سوى 11 شيخاً، وامتداداً حتى 1925 بلغ العدد 324 شيخاً ورغم قلة عددهم فإنهم لم يجدوا وظائف سوى أئمة للصلاة أو مؤذنين، فقد نافسهم فى تولى الوظائف خريجو الجامعة الذين كانوا أقرب إلى الحياة المدنية وإلى المعارف الحديثة، ثم كان التطور الأخير فى تحويل الأزهر إلى جامعة تضم كليات شرعية وأخرى علمية.
وهكذا يرسى د.أيمن قاربه على شاطئ يقول: «لم يكن الأزهر مؤسسة علمية إلا لفترة وجيزة من تاريخه، كما لم يصبح مركزاً سنياً إلا لفترة وجيزة أيضاً». لكنه يعود ليلاحظ أن السنوات الأخيرة شهدت نشاطاً دولياً ومحلياً بارزاً جداً للأزهر ولشيخه الإمام هو أحمد الطيب الذى استقبل فى البلدان التى زارها فى آسيا وأوروبا وحتى فى الفاتيكان استقبالاً رفيع المستوى يليق بمكانته كإمام للسنة ومكانة مصر كحاضنة للأزهر.
د.أيمن.. شكراً جزيلاً، وإلى لقاء مع دراسة جديدة.