(١) هذا هو المقال (١٦) فى سلسلة مقالات «الإخوان والحق المر»، وفيه نستكمل ما تحدثنا فيه المرة الماضية وهو مبادرة المرشد للإصلاح.. الذى حدث أنه بعد أن تم حجز صالة بنقابة الصحفيين بخصوص عقد مؤتمر للتحدث عن المبادرة، وصل الخبر إلى جهاز مباحث أمن الدولة، فاتصل أحد رجاله بالمهندس خيرت الشاطر وقال له: ما هذا الذى يفعله المرشد؟ ما عهدنا منكم مثل هذا السلوك المفاجئ، كان «خيرت» فى تلك الأيام ملازماً بيته لوجع شديد فى ركبتيه، ولم يكن على علم بمسألة المبادرة، فطلب منا زيارته فى بيته للوقوف على ما نحن مقدمون عليه.. فى مساء الثلاثاء ٢/٣/٢٠٠٤، التقى المرشد مع عدد من أعضاء مكتب الإرشاد فى بيت «الشاطر» لمناقشة الأمر، حيث عوتب المرشد من الجميع عتاباً شديداً، وكان موقفه حرجاً للغاية لدرجة أننى كنت مشفقاً عليه.. مع ذلك، انتهى الحاضرون إلى أن يقوم كاتب هذه السطور بإعداد المبادرة.. قلت: كيف والأمر يحتاج إلى وقت، والمبادرة سوف تعرض ظهر الغد بنقابة الصحفيين؟ قالوا: يمكن الاكتفاء بعناوين عريضة!!!
(٢) انفض اللقاء، وعدت إلى بيتى فى الساعة ١١٫٣٠ ليلاً.. لحظتها، لم أكن أدرى ما الذى يمكن أن يُكتب فى هذا الصدد.. حاولت استجماع شتات نفسى فلم أفلح.. بحثت فى الذاكرة لعلى أجد شيئاً ذا بال أخطه على الورق أمامى، إلا أن محاولاتى ذهبت أدراج الرياح.. قلت لزوجتى: أنا فى حاجة إلى فنجان من شاى.. قالت وقد أخذها الاستغراب: فى هذا الوقت؟ قلت: لعله يساعد فى التركيز.. قمت فتوضأت، وعدت إلى مكانى، وحانت منى التفاتة إلى حقيبة يد كانت موجودة إلى جوار المقعد، وجدتنى بطريقة عفوية انحنى وأقلب فى محتوياتها.. عثرت على مذكرة بين الأوراق.. التقطتها وبدأت أتصفحها.. وجدت بها معانى جيدة ورؤية مفصلة حول الإصلاح الشامل.. كأنى وجدت ضالتى، فاستكانت نفسى واطمأن قلبى.. كانت المذكرة هى البرنامج الانتخابى للمستشار المأمون الهضيبى فى انتخابات مجلس الشعب المصرى لعام ٢٠٠٠، التى تم تزويرها لصالح مرشح حزب السلطة.
(٣) فى صبيحة الأربعاء ٣/٣/٢٠٠٤، وهو يوم انعقاد المؤتمر الصحفى، انعقد مكتب الإرشاد وأقر المبادرة بشكلها وجوهرها مع تغيير طفيف فى بعض الألفاظ كى تناسب المقام، وقمنا فى عجلة لنلحق بنقابة الصحفيين قبل الساعة ١٢ ظهراً.. فى الموعد المحدد، كان هناك تجمع كبير من الصحفيين والإعلاميين.. قدم المرشد للمبادرة بكلمة بسيطة، ثم بدأت أنا فى عرضها، وبعدها فُتح باب الأسئلة.. أجاب المرشد عن بعضها وأجبت عن البعض الآخر.. لحسن الحظ نالت المبادرة والإجابة عن الأسئلة قبولاً، ولم يفطن أحد من الحاضرين إلى أن المبادرة لم تكن سوى البرنامج الانتخابى للمستشار المأمون الهضيبى!
(٤) بعد ذلك بأسابيع قليلة تنبه أحد الصحفيين المهتمين بالحركات الإسلامية لهذه الحقيقة، ويبدو أنه ذكرها فى برنامج بإحدى القنوات الفضائية.. لقينى بعدها الدكتور عصام العريان وأخبرنى بالأمر، وقال لى إن صورتنا لم تكن مقبولة أمام الرأى العام، خاصة النخبة، وكان من المفترض أن ننوه إلى ذلك فى المؤتمر الصحفى.. قلت: هذا صحيح، وأنا أعتقد أن ما قمنا به على هذا النحو كان خطأ كبيراً، وأنا أول المشاركين فيه، وأسأل الله أن يغفر لنا جميعاً.
(٥) إن الصدق والشفافية والدقة والأمانة والشجاعة يجب أن تكون طريقنا إلى كسب ثقة الرأى العام، ولا يليق بجماعة هذا تاريخها وثقلها وامتدادها، فضلاً عن القيم والمبادئ التى تدعو إليها، أن تقوم بهذا الأمر.. الغريب أننى كنت حين أتحدث إلى بعض الإخوان عما حدث، لم أكن أجد لديهم غضاضة أو حرجاً، بل كان بعضهم يعتبرها فتحاً وتوفيقاً، وهو ما كان يثير عندى قلقاً.. وعندما أعود بذاكرتى إلى تلك الأيام أقول: يا إلهى.. كيف حدث ذلك؟ ولماذا لم يتم تقويم الموقف برمته، سواء ما وضعنا فيه المرشد، أو ما وضعنا نحن فيه أنفسنا؟ ولماذا تركنا الأمور تجرى هكذا دون محاسبة؟ وهل يمكن أن تدار جماعة لها وجودها وانتشارها فى الساحات المحلية والإقليمية والدولية بهذه الكيفية المثيرة للشفقة؟ قد يقال إن المبادرة كان لها أثر طيب، وإن نتائجها فاقت ما كان متوقعاً.. وهذا صحيح.. لكنى أقول: وهل نحن نقوّم الأعمال على أساس النتائج، أم على أساس المقدمات والوسائل والأدوات والخطوات؟
(٦) من الإنصاف أن نقول إن المرشد «عاكف» كان حريصاً منذ اللحظة الأولى لتوليه منصب المرشد أن يقوم بالاتصال بقيادات الأحزاب التى كانت موجودة آنذاك، خاصة بعد حضورهم ومشاركتهم فى عزاء المستشار الهضيبى.. وفى أواخر يناير ٢٠٠٤، قمنا بزيارة هؤلاء القيادات فى مقار أحزابهم لتقديم الشكر لهم من ناحية، ولإيجاد قنوات اتصال معهم من ناحية ثانية.. وقد كان وفد الزيارة مكوناً من المرشد وأنا وآخرين؛ حيث بدأنا بحزب الوفد، ثم العربى الناصرى، فالتجمع.. وقد جرت حوارات ودية بيننا وبينهم، استعرضنا فيها الأوضاع فى مصر وما تتطلبه المرحلة من تضافر كافة الجهود وتكاتف كل القوى.
(٧) فى مايو من نفس العام، عاودنا الكرة مرة ثانية، لكن بوفد آخر رأسه كاتب هذه السطور وعضوية كل من: سيف الإسلام حسن البنا، د. محمد مرسى، على فتح الباب، ومحمد عبدالقدوس.. كان الهدف من الزيارات إجراء حوار مع الأحزاب الثلاثة؛ الوفد والعربى الناصرى والتجمع، يستهدف بلورة شكل معارض ينمو مع الوقت ليضم الإخوان وهذه الأحزاب والأحزاب الأخرى والقوى السياسية والوطنية، ويكون قادراً على قيادة عملية الإصلاح السياسى فى مواجهة النظام القمعى المنفرد بالسلطة والمتسبب فى حالة التردى التى تعيشها مصر فى تلك الفترة.. كان تصورى أن يكون هناك عمل مؤسسى يتحرك بشكل منهجى، علمى وعملى على أرض الواقع.. هذا العمل يبدأ بتكوين نواة من ٥٠ عضواً من القوى الأربع الرئيسية بدرجة شبه متساوية، وتكون لها قيادات دورية، ورئاسة دورية كذلك، ولها خطة عملها وبرنامجها ووسائلها وأهدافها المرحلية والنهائية، وتنبثق عنها أمانة للإعداد والمتابعة، وهكذا.. (وللحديث بقية إن شاء الله).