تشرّفت بحضور مؤتمر الشباب الشهرى الأول الذى تم فى القاهرة بعد مؤتمر شرم الشيخ، واستمعت إلى وزير التعليم الدكتور طارق شوقى، وكان ضيفاً على المنصة، وقد بدأ حديثه يومها بعبارته التى أعتبرها خالدة «أنا ابن التعليم المجانى»، ثم استطرد يعرض تصوراته لإصلاح التعليم ووقتها عُدنا بعد المؤتمر، وكتبنا هنا على صفحات «الوطن»، وقلنا إنه كان على المنصة من يستحقون أن يكونوا فى مواقع المسئولية أكثر ممن يتولونها.. وبالفعل جاء الدكتور طارق شوقى إلى وزارة التعليم!
بلا مبالغة، فاعتقادنا أن وزارة التعليم هى واحدة من أهم وأخطر وزارة بين وزارات مصر، وعليها عبء بناء وتشكيل وجدان الجيل أو الأجيال التى ستصنع الحاضر وستبنى المستقبل.. ووفق المعطيات الحالية يبدو المشهد سلبياً إلى حد الأسف، وربما إلى حد فقدان الأمل، ومع صعوبة المهمة فإنه لا شىء عصى عن المواجهة، ويبدو انتصار الدكتور شوقى على المعوقات التى تواجهه ممكناً.. وهذا لا يتم طبعاً باستخدام الأدوات ذاتها التى أدت إلى الأزمة الحالية لكل من التعليم والتربية على السواء، ولا بإعادة إنتاج السياسات التى فشلت فى مواجهة المشكلات، بل فى تفاقم مأساة التعليم فى مصر!
هنا نقفز مع الدكتور طارق شوقى ووزارة التعليم كلها، لنقول لسيادته ولهم جميعاً، وبصراحة لا نعرف ولا نقبل إلا إياها، وكثير مما سنقوله يعرفه قطعاً الوزير وكل أركان الوزارة، ولذلك لن نتوقف طويلاً عند جمل إنشائية يحفظها الجميع من عينة «أن تدهور التعليم تم بناءً على مخطط محكم»، و«لو أردتم تدمير أمة فعليكم بشبابها، وبالتالى فعليكم بمناهج تعليمها»، و«البروتوكول رقم 12 فى بروتوكولات حكماء صهيون يتكلم عن استهداف التعليم فى الدول المستهدَفة»، و«دول عديدة بنت نهضتها بالاهتمام بالتعليم»! وهكذا إلى آخر هذه العبارات التى هى صحيحة بدرجة أو بأخرى.. لكن الأهم الآن فى مواجهة ذلك وإعادة البناء من جديد.. لذلك وفضلاً عما يعرفه الوزير، علينا أن نقول إن تفريطاً كبيراً جرى خلال السنوات الثلاثين السابقة أدى إلى تحول مسار التعليم المصرى، وربما يمكن أن تكون الأزمة بدأت قبل ذلك عندما تم توجيه المناهج لأسباب سياسية.. وهنا يبدو التحدى الحقيقى، ونسأل: هل سيستطيع وزير التعليم أولاً أن يعيد الاعتبار عملياً ورسمياً إلى الاسم الحقيقى والقديم لوزارته، لتعود على شفاه الناس، وفى المكاتبات الرسمية والأهلية «وزارة التربية والتعليم»؟ وهل سيستطيع سيادته أن يعيد الاعتبار لتاريخ وبطولات الشعب المصرى ويسعى لإزالة كل جرائم تزويره وتزييفه التى ارتكبها وانتصر فيها إعلام جماعة الإخوان الذى أفهم أجيالاً كاملة أن مصر هزمت فى معركة 1956؟ هل ستقول لهم المناهج الجديدة إن حرب بورسعيد كانت ملحمة كبيرة صمد فيها شعبنا ضد إمبراطوريتين عُظميين، ودولة معادية، وأن الانتصار تم بتحقيق الإرادة مهما كانت التضحيات، وفى الأخير عادت قناة السويس إلى مصر، وبنى شعبنا السد العالى وانسحب الغزاة، وسقط رئيس وزراء بريطانيا وقت الحرب «أنتونى إيدن»، لتنتهى بريطانيا العظمى إلى الأبد، وأن أشهر كتاب عن الحرب وعن السقوط وعن انتصار مصر كتبه وزير خارجية بريطانيا نفسها، وهو السير «أنتونى ناتنج»، بينما فى مصر يقولون العكس بتواطؤ من الإعلام الرسمى لتشويه فترة الخمسينات والستينات؟ هل ستقول المناهج الجديدة لتلاميذ مصر كيف كسرت بلادهم احتكار تكنولوجيا الدواء، وفكت شفرتها وصنعتها فى مصر؟ هل ستحدثهم عن حائط الصواريخ وملحمة بنائه؟ هل سيعود «جول جمال» و«جواد حسنى» إلى المناهج؟ هل سيتقرر على تلاميذ مصر أن يوليو هى الثورة الأم وأن أحوال 99% من شعبنا قبل الثورة كانت بؤساً مطلقاً وتحصد أرواحهم أمراض بسيطة، لتركهم وقراهم بلا أى رعاية، وبلا أى تعليم وأن كل ذلك حققته لهم ولآبائهم ثورة بلادهم الأم؟ هل ستقول لهم المناهج إن الهجوم على الثورة، وجمل سخيفة مثل «60 سنة حكم ....»، أو «60 سنة فشل»، إنما تستهدف فى الأساس الجيش المصرى الذى تولى أبناؤه أحوال البلاد منذئذ وأن العبارة تحمل إسقاطاً الآن على جيشنا العظيم؟ هل ستروى لهم المناهج بطولات جزيرة شدوان ورأس العش وعملية الثأر الجريئة لاستشهاد الفريق عبدالمنعم رياض، وعن بطولات الفرقة «39 قتال»، وبطولات إبراهيم الرفاعى، وكل رجال الصاعقة المصرية؟ هل ستروى لهم كيف صنعنا أول صاروخ، وأول طائرة وأول مفاعل نووى فى إنشاص؟ هل ستروى المناهج قصة بناء برج القاهرة، وتقول للتلاميذ إنه بُنى بأموال الرشوة الأمريكية التى رفضها رئيسهم، ورفض إعادتها وأصر على أن يبنى بها صرحاً يشهد على الكبرياء المصرية أبد الدهر؟ هل ستروى لهم حياة الدكتور مصطفى مشرفة والدكتورة سميرة موسى وشبهات اغتيالهما؟ وغيرها وغيرها من التاريخ الحقيقى لبلادهم ولآبائهم، الذى تم تزييفه عمداً، وتم تزويره عمداً، وتم العبث به عمداً، ليُحقق عدة أهداف فى وقت واحد.. أن يفقد الجيل كله ثقته فى نفسه وفى بلده.. ليؤمن الجيل كله أن تاريخ بلادهم ليس إلا سلسلة من الهزائم والإحباطات.. إن الحل يجب أن يكون فردياً، سواء بالهجرة والسفر، أو بالحل الذاتى داخل البلاد، ومن هنا جاءت الأنانية وانعدام الضمير وعدم الانتماء والانكفاء على الذات وتوارى قيم العمل والمجتمع الواحد والأخلاق، لتحل محلها قيم «اللى تغلب بيه العب بيه»، و«معاك قرش تسوى قرش»، و«إن خرب بيت أبوك الحق خد منه قالب»، و«اللى مش هيغنى فى عهدى مش هيغنى أبداً»، فصارت الحياة صراعاً رهيباً، وغيرها وغيرها!
جيل الغش الجماعى والتحرش الجماعى وجيل مدرسى الرقص على أغانى المهرجان، وتدنى الذوق العام وعدم احترام لا عَلَم مصر، ولا طابور الصباح، ولا المدرس، ولا المدرسة، لم يأتِ صدفة.. إنما تم التخطيط له بعناية.. وبعناية فائقة.. وبما يُبرز العبء الرهيب الذى يتحمّله الآن وزير التعليم الدكتور طارق شوقى.. وكل ذلك لم نتعرض لمأساة التعليم الخاص ودوره فى تفكيك مصر، لكنه يحتاج إلى حديث مستقل.. ويبقى للوزير أن قدره أن يواجه منفرداً كل ذلك فى ظل إعلام تراجع دوره وأغلبه ربما لا يعرف دوره أصلاً، بل يسهم فى الاتجاه العكسى!
الدكتور شوقى على خط النار.. وهو على موعد مع القدر.. وقد يكون على موعد مع التاريخ.. ليس ليُعيد صياغته صياغة حقيقية فحسب.. وإنما ليُسجل لنفسه مكاناً بارزاً فيه!