١ ـ ربما كان من الأفضل دائماً أن نتأمل الموقف بأكمله كثيراً، ونحاول تحليل المعطيات المتاحة بحياد وحكمة قبل أن نصدر أحكامنا التى طالما تخرج عاطفية النزعة فى أغلب الأوقات!
الأمر يصلح فى كل الأحوال، ولكنه فى رأيى ضرورى حين يتعلق بالشأن السورى، الأكثر تعقيداً على ظهر الكرة الأرضية بأسرها!
أيام قليلة مرت على الضربة الأمريكية الغامضة التى استهدفت مطاراً حربياً سورياً فجر الجمعة الماضى، ولم نزل نحاول الفهم، ربما سنستمر فى محاولاتنا حتى ننسى الأمر برمته، أو حتى موعد الضربة المقبلة أيهما أقرب!
٢ ـ الصورة مرتبكة للغاية أمام الجميع، فـ«ترامب»، الرئيس العنصرى حديث العهد بالسياسة الدولية، يصدر أوامره لعقاب «الأسد» على استخدام سلاح كيميائى فى «خان شيخون»، الأمر الذى لم تثبت صحته من الأساس حتى هذه اللحظة، والذى نفاه النظام السورى بحزم دون تبرير! يعضده فى نفيه انتفاء الحاجة إليه فى ظل تقدمه الملموس على الأرض أمام فصائل المعارضة وجيش النصرة!
الثابت أن أحداً ما -أو فصيلاً من فصائل الصراع على الأرض فى سوريا- قد أطلق سلاحاً كيميائياً محرماً دولياً، لا أحد يمكنه الجزم بصاحب السلاح، ولكن الإدارة الأمريكية قد أعلنت أنه يخص جيش بشار، وقررت عقابه على فعلته، بل ونفذت عقابها أيضاً!
٣ ـ موجات عارمة من الغضب الشعبى العربى بسبب الضربة الأمريكية، الكل يشعر بلهيب حرب الخليج يلفح وجهه، وصورة العراق المدمر عقب الاجتياح الأمريكى تملأ الأذهان وتستدعى الذكريات الحزينة، ولكن أحداً لم يلتفت للحقيقة!
الحقيقة أن الأمر يختلف جذرياً، فلن تتحول سوريا لعراق جديد، فالواقع أنها فعلياً فى حال أسوأ بكثير مما كان عليه العراق حتى بعد الحرب!
لقد فقدت سوريا مفهوم الدولة منذ فترة ليست بالقصيرة، وأصبحت القوى الدولية من روسيا وإيران، وتركيا فى مساحات محدودة فى الشمال، هى المتحكمة فى المشهد بالكامل!
الخسائر البشرية المحدودة للقوات السورية، ورد الفعل الروسى المحدود الذى ظهر أمام القصف الأمريكى يشى بأن الضربة معدة مسبقاً بين أطراف النزاع هناك، وأن الأمر لن يتطور أكثر من ذلك كثيراً فى الأيام المقبلة!
لم تضر سوريا من الضربة الأمريكية تقريباً، فلم تعد تملك ما تخسره من الأساس!
٤ ـ رسائل عديدة ترسلها إدارة «ترامب» بضربة صواريخ توماهوك الأخيرة، البعض منها للشرق الأوسط، ولكن أغلبها تستهدف المواطن الأمريكى المعارض لحكم «ترامب» منذ اللحظة الأولى!
تحاول الإدارة الأمريكية أن تحفظ ماء وجهها فى الداخل الأمريكى بالرد السريع القوى على نظام بشار، تحاول أن تثبت لمواطنيها أن «ترامب» يختلف عن «أوباما»، المتردد البطىء، وأننا أمام رئيس قوى، يتخذ قرارات جريئة وفى وقت قصير!!
بالإضافة إلى ذلك فالإدارة الأمريكية تغازل المملكة السعودية بأن تقدم لها هدية صاروخية لعدوها الذى تخشاه منذ فترة طويلة، الأمر الذى ربما يعيد العلاقات الأمريكية السعودية إلى ما كانت عليه مرة أخرى، وهو ما تريده المملكة، ولا يمانع فيه «ترامب»!
٥ ـ الضربة الأمريكية لم تكن سوى رسالة للجميع بأن أمريكا ما زالت فى سوريا، ولم تتركها للجانب الروسى منفرداً، وأنها «قد» تتحرك فى أى وقت لحماية مصالحها فى أرجاء الأرض كلها، كما أنها يمكنها عقاب من يخطئ ويتجاوز، ولكنه عقاب لا يكلفها معدات أو أفراداً على الأرض، إنها بعض الصواريخ التى لم تضر أحداً، ولكنها أثلجت صدر البعض الذى سيحاسب على تكلفة الضربة حتماً، إن لم يكن قد سدد الثمن مقدماً!!