أجلس مرسلًا قدميَّ أسفل كرسي القهوة الخشبي، أسمع طقطقة النرد، وصياح الأطفال في الشوارع، رائحة ماء الغسيل المختلط بتراب الأرض، جَلَبَة بائع يشتم امرأة بعد أن ساومته وتركته.. محلّ الحلاقة رث على شمالي، وجلباب أحد الأطفال مقلَّم من نوع قديم، لا أدري كيف عاش حتى وصل إليه.. أتذكر ثقل الأمانة، فأزوغ ببصري بين فتاتين حاسرتي شعر رأسيهما، ابتسمت لي إحداهما، فهممتُ بأن أسحب طاقيتي العسكرية، وأضعها على رأسي، وأنسى لماذا جئت إلى الحارة.. جاذبًا الصندوق الخشبي البني الخاص بمحمد.. يمد محمد يده ويجذبني، فأعتذر لاندفاعي، وأعود إلى الكرسي الخشبي، معتذرًا.
ينظر إلي شذرًا فأنهمك في صحيفة كان قد نسيها الجالس قبلي، ألتهم السطور، وأنتظر أن أراها..(الحكومة دي مجنونة يا عم؟!) يلقي الجملة بائع الفول على ناصية الحارة، معلقًا على ارتفاع أسعار شيكارة الفول، وكارتونة البيض.. بجواره امرأة تفترش الأرض، أو تفترشها الأرض، تبيع بعض ما تسميه خضارًا طازة، أتلفَّتُ ناحية القهوة، فأجد رجلًا أربعينيًّا يفتل شاربه كلما مرَّت فتاة من عمر بناته، تستفزُّني هذه الحركة، لم أرها إلا في أفلام الأربعينات، أهمّ بأن أسحب الطاقية العسكرية والصندوق مرة أخرى لأزجره ولو بكلمة ساخرة، ينظر إليَّ محمد، لأكمل المهمة التي جِئتُ من أجلها.
بين الملل وضربات الشمس المتتالية أرى جدار البيت المواجه لي مكتوب عليه بحروف باهتة (حاكموهم)، وحين تسرب شيء من اليأس أبصرتُها أخيرًا.. تجرّ قدميها جرًّا، على باب الحارة تتعكز على المباني في الناحيتين، وبين الخطوة والخطوة، تتوقف لتتنفس، وتمدّ يدها على صدرها بحركة مسرحية، تعد دقات قلبها التي تتسارع كلما مشيت، أنظر إلى محمد.. أين النخوة في أن تترك أمك العجوز هكذا؟! يبتسم بلا مبالاة.. وددت لو أملك السلطة لأضربه على وجهه.. تأملت الصندوق البني، اعتبرت تقديمه لها انتقامًا كافيًا من برودة ابن عاقّ.
لم أشأ أن أقطعها عن مسيرها إلى البيت الذي ينتصب في مقابل القهوة.. أتركها تمر، تصعد السلمات في رتابة قاتلة.. تجلس قليلًا على السلَّم الأفعواني، كأنها تقول له: عما قليل أُريحُك من جلساتي..! سمعت صوت إغلاق باب الشقَّة.. نظرت إلى محمد الذي لم تلحظه أمه الخائفة من حصوات الطريق، أطالبه بشيء من التذلل أن يحمل عني عبء الصعود، وأن يقفز السلمات برشاقته التي يُحسد عليها في الوحدة، وأن يقبِّلَ يديها ويعتذر عما بدر منه، ويريحني من هذا العناء، وكأنه لمح ما نويته، ضغط على أسنانه وبيده أمسك معصمي، كأنه يتوعَّدني، أزحت مرفقه بنصف ابتسامة، وارتفعت إلى سلم تركت فيه العجوز بعض رائحتها!
خبطات متلاحقة على الباب، وانتظرت هنيهة، حتى سمعت صوت ارتطامها المكتوم بكرسي في الطريق، ثم خطوة.. اثنتين ثلاثًا، حتى وصَلَتْ إلى مقبض الباب، وأدارَتْه.. تأملْتُ وجهها في النور.. الملامح أوضح، لم تُخفِ التجاعيد الزاحفة ابتسامة رضا، وعلى هيئتها الرثة، تعطي النظارة الطبية التي ترتديها بعض التناقض.. حكى لي محمد قبل أن يقاطع أمه، أنه اشتر النظارة بناء على طلبها حتى ترى حروف المصحف، كان دائم السخرية مِنْ جهلِها بالقراءة وإصرارِها على رؤية الحرف الذي تضع أُصبَعَها عليه، وكانت تجتهد في إيجاد مبرِّرٍ لذلك، فتفشل، فتضحك وهي تضربه على صدره، قائلة: لما تكبر هبقى أقول لك!
تحتقن الكلمات في وجهي، كيف أخبرها أن ابنها يتنكر لها..؟! هل ستستوعب جلوسه على المقهى أمام البيت دون أن يكلمها..؟! ما دخلي بكل هذا؟! بعد صمتٍ قالت بعتاب: إنتا صاحب محمد، صح؟!
سكت..!!
انفجرت في البكاء والعويل المكتوب.. جلست تفترش البلاط، تنتحب.. وضعت إلى جوارها الصندوق البنيّ الذي أوصاني بإيصاله، قبلتُ رأسها، ثم تركتُها لا أدري أيَّنا الأغزر دموعًا.
ضاغطًا على أسناني حتى أسمع صريرها هبطتُ السُّلّمات بالترتيب، منتعشًا ببعض هواءٍ غاب عن الشارع، مادًّا كفَّيَّ إلى حيث كان يجلس محمد، بعض ارتياح رغم دمعتين كانتا قد تأخرتا، جلست إلى الكرسي الخشبي نفسه، ناظرًا إلى الفراغ، معاتبًا الابن العاقّ الذي فضَّل البقاء في الصحراء، وأرسل لأمه متعلقاته!