المفتاح الثانى لثقافة النكسة هو اليأس من الواقع. وقد سيطرت هذه الحالة على المصريين عشية هزيمة يونيو 1967 بفعل عاملين، أولهما الفكر المسموم الذى اجتهد الإخوان فى بثه فى الواقع، وثانيهما أداء الأنظمة السياسية التى تعاقبت على مصر منذ الخمسينات. لعب العاملان دوراً أساسياً فى تكريس إحساس لدى المصريين بأن «هذا البلد عمره ما هييجى قدام» وإن «مفيش حاجة هتتغير».
تعلم أن ثورة يوليو 1952 قام بها الضباط الأحرار مدعومين شعبياً بجماعة الإخوان، ومنذ اللحظة الأولى لقيامها كان الإخوان يعتبرون أنفسهم شركاء فى الثورة، الضباط أنفسهم كانوا يقرون بذلك، خصوصاً أن من بينهم من كان عضواً فى جماعة الإخوان. ولأن المركب التى لها «ريسان تغرق» كان من الطبيعى أن يتخلص أحد الطرفين من الآخر، ونجح «عبدالناصر» فى ذلك، وتمكن من السيطرة على الحكم بشكل كامل. رد الفعل الإخوانى جاء فى شكله الاعتيادى فحاولوا عبر محاولات متتالية اغتيال «عبدالناصر»، لكنهم لم ينجحوا، وأعطوه الذريعة كاملة للتنكيل بهم. أمام الهزيمة الساحقة التى منى بها الإخوان لم يبق أمامهم إلا إشاعة جو من «التيئيس من الواقع» والتشكيك فى كل الخطوات التى يتخذها جمال عبدالناصر، وتهيأت الأجواء كاملة للجماعة لتعزف على هذا الوتر كيفما يحلو لها، بعد هزيمة 1967، وظنى أن الدافع الرئيسى الذى ساق الإخوان إلى ذلك يتمثل فى مشهد 9 و10 يونيو 1967، عندما أصر الشعب المصرى على استمرار «عبدالناصر» فى الحكم بعد التنحى، فبدأوا ينظمون قصائد الذم فى الشعب الذى يتمسك بالقائد المهزوم، ويشككون فى وجود أى أمل فى التغيير أو الإصلاح. والإخوان شأنهم شأن أى فصيل سياسى آخر فى مصر يرى أن المعنى الحقيقى للإصلاح يتمثل فى أن يدفع الشعب به إلى سدة الحكم!.
أداء الأنظمة السياسية التى توالت على حكم مصر بعد ثورة 1952 يحمل رسالة مباشرة أيضاً بـ«التيئيس من الواقع» و«التشكيك فى تغيير أو إصلاح الأوضاع». الرئيس «عبدالناصر» بدأ حكمه بالشكوى من فساد عصر ما قبل الثورة، والرئيس «السادات» كان يردد أن «عبدالناصر» ترك له تركة من الحقد ومشكلات لا تحصى ولا تعد، ومن بعدهما اشتكى «مبارك» من التركة التى خلفها له «السادات»، ومن بعد ثورة يناير لم ينس كل من حكم مصر أن يتحدث عن الخراب الذى لحق بمصر طيلة السنوات الستين الماضية. هذا النوع من الخطاب يشيع اليأس لدى السامع، وعندما يتكرر على ألسنة من يعتلون سدة الحكم يؤدى إلى تكريس حالة من الإحباط لدى الشعب. وقد تولد لدى الكثيرين أمل بعد ثورة 25 يناير أن يختفى هذا الخطاب من حياتنا السياسية، لكن المفاجأة أنه واصل «التعشيش» فى أدمغة شرائح النخب والحكام والمحكومين بصورة تثير الاستغراب، فلا حديث إلا عن الدولة الفقيرة والشعب الذى يئن ويشكو، سحابات من اليأس أصبحت تظلل جنبات شعب قام -ويا للعجب- بثورتين.. وتقديرى أن العلة فى ثقافة النكسة التى تجد جذورها فى يوم 5 من شهر 6 الذى عشناه منذ 50 سنة!.