وفى جلسة بيروتية هادئة أمضينا وقتاً ممتعاً مع بشير الداعوق (دار الطليعة للنشر) وزوجته المبدعة بلا حدود غادة السمان، وانطلق حديثنا إلى كتاب «نقد الفكر الدينى» الذى نشرته دار الطليعة فأحدث ضجة هزت أرجاء دمشق وبيروت وتطايرت اتهامات التكفير ضد الاثنين ولم يخفف من أثرها إلا أن الكاتب هو ابن جلال العظم وسليل عائلة العظم الدمشقية العريقة وأن الناشر هو د.بشير الداعوق الأستاذ بالجامعة الأمريكية وابن أسرة الدعواق العريقة وابن شقيق أحمد الداعوق رئيس وزراء لبنان آنذاك وابن واحدة من أشهر سيدات ذلك الزمان سارة الداعوق وهى ناشطة فى مجالات الخدمة الاجتماعية وأغدقت تبرعات ضخمة للأعمال الخيرية.. وبضغوط مجمعة من هنا وهناك حكم بالبراءة. وامتد الحوار إلى الكتاب ذاته وقلت له حاذر فطغاة بلدك قد يعصفون بك، فانفجر «صادق» قائلاً «هذا الفتى البرىء يكتب وينسى ما يبثه من ألغام فى كتبه». وسألت غادة «مثل ماذا؟»، فقال «أنا تلقنت منه أن الطغاة (عندنا) والاحتلال الإنجليزى فى مصر فى مطلع القرن العشرين يتشابهان.. فهما لا يهمهما ماذا تكتب ولا ماذا تقول طالما أنك لا تحرض ضدهما بل يتخذانك سبيلاً لإقناع الآخرين بأنهما مع حرية الفكر والرأى، باختصار قل ما شئت ولكن لا تمسهما». ولكن «صادق» لم يكن ليطيق العيش فى المناخ الدمشقى الملوث بهواء الحكم البعثى الخانق، فكان يستقر قليلاً فى بيته البسيط جداً ليجد مهرباً للتدريس فى جامعة أوروبية أو أمريكية، لكنه يعود. وألتقيه بالمصادفة ويقول «عشق دمشق موجع ولا يقاوم». والحقيقة أن جوهر الفكر الفلسفى لصادق جلال العظم لم يتغير، هو لم يتزحزح عنه والفكر تلبسه بحيث لم يسمح له بالإفلات. فرسالة الدكتوراه أعدها عن كانط وظل كانطياً حتى النهاية. ويعتقد صادق أن المخرج من حالنا المتردى موجود لكننا نتجنبه، المخرج هو الإيمان بالعلم الحديث باعتباره «مصدر معرفتنا الجادة بحقيقة العالم والمجتمع والإنسان». وهو يرى أن العلوم الطبيعية والإنسانية هى «علوم الأحداث والأفعال وأنها علوم نقدية للغاية». وهو عندما يجلس ليكتب أو يقف ليحاضر تتلبسه ما يمكن تسميتها «روح النقد العلمى» أو «روح العلوم النقدية». أما التنوير فهو الوجه الآخر للتفكير النقدى ويسأل ذات مرة «ماذا يبقى من عملية التنوير إذا أزحنا الروح النقدية جانباً»، بما دفع البعض إلى وصف صادق العظم بأنه فولتير العصر الحديث. ولكن لعله من غير الصائب تصور أن صادق كان مجرد تلميذ نقل حرفياً فكر كانط فهو قد اتخذ النزعة التنويرية سبيلاً للتمايز بينه كيسارى وبين كانط. وقد استغرق صادق العظم كثيراً من كتاباته للتمييز بين الممارسات النقدية لليمين واليسار وأسس لفلسفة تقوم على مبدأ النقد اليسارى ذى النكهة الماركسية رغم أنه وجد أنه لا يستطيع أن يقيد نفسه بقيود حزبية فظل على الدوام متمسكاً بيسارية شبه ماركسية مستقلة تماماً عن أى حزب. ولا يخفى صادق العظم إصراره على أن «حيوية الفكر الماركسى وقوته ترتبط بمدى حضور محتواه النقدى»، وأن إنجلز إذ يؤكد أن النقد المستمر والمتواصل هو أحد الوظائف الرئيسية للفلسفة فإن فلسفة كانط إذا كانت هى فلسفة القرن الثامن عشر النقدية فإن الماركسية كما يقول جون بول سارتر هى الفلسفة النقدية المعاصرة.
لكن «العظم» يأبى إلا أن يتمايز وأن يخلق لنفسه نمطه الخاص، فماركسية العظم مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بالليبرالية. ولكن الشىء المثير للدهشة هو أننى بملامستى الشخصية لصادق العظم وقراءتى لبعض أعماله لم أجد من خلال ملامساتى الشخصية مع قيادات الحزب الشيوعى السورى أى تعاطف أو حتى تواصل بينهم وبين صادق جلال العظم.. ربما لأنهم يؤمنون بأنه «لا ماركسيون خارج حزب الماركسية»، وربما لأن الروح النقدية المستمرة والمتمركزة فى عقل وفكر صادق العظم لم تتلاءم مع طبيعة علاقة الحزب الشيوعى السورى بالاتحاد السوفيتى وبالحكم البعثى السورى وهى علاقة بعيدة تماماً عن أى انتقاد ولو بأقل قدر. كذلك فإن الروح النقدية التى هيمنت على صادق العظم ترتبط ارتباطاً عميقاً بالواقع العربى المأزوم والذى تجلى واضحاً فى هزيمة يونيو 1967. ولم يكن هذا النقد مجرد رد فعل على الهزيمة ذاتها، بل كان بالتحديد ضد أى محاولة من السلطة ومن كتابها للتهوين من خطر الهزيمة وأسبابها وبواعثها ونتائجها. ونقرأ فى كتاب «نقد الفكر الدينى» أن الأزمة التى خلفتها الهزيمة ليست أزمة طارئة على الإطلاق، بل هى أزمة مصيرية وجوهرية تهدد الكيان العربى كله، وكل تصور للأزمة على غير هذا الوضع يستهدف التخفيف من خطورتها وحدتها ليس إلا خداعاً ومجاملة فارغة وتضليلاً. ولعل هذا كان أحد أسباب الغضب السلطوى من كتاب «نقد الفكر الدينى»، واستمر العظم على هذا المنوال. ففى عام 1987 يتحدث عن الأزمة العامة المستحكمة التى تفرض ضرورة النقد وتحتاجه كشرط أساسى ولا غنى عنه لتشخيصها وفهم أسبابها بهدف الوصول إلى مخرج من هذا الوضع يقتاد البلدان العربية نحو تقدم وديمقراطية وعقلانية وعلمانية وتحرر. لكن ليس هذا كل ما كان عند صادق العظم فقد كتب أبحاثاً فلسفية اجتماعية مثل كتاب «الحب والحب العذرى» ثم كتاب «ذهنية التحريم» لكنك لا تستطيع أن تعزل حتى تلك العناوين عن جوهر الفكر النقدى اليسارى شبه الماركسى لصادق العظم.
فتحية وسلاماً وطبت حياً وميتاً يا صديق.