مهمتك هى تمهيد المناخ الثقافى لإعادة صياغة الوجدان المصرى وتذكر أن بناء المصانع سهل.. لكن بناء الإنسان صعب جداً.
إنها الوديعة التى اؤتمن عليها مقريزى الثقافة المصرية بتكليف من الزعيم الراحل عبدالناصر.
خدعوك بالقول زوراً أن العسكريين لا يجيدون الأعمال المدنية وعقولهم لا تدرك الواقع خارج حدود ثكناتهم وأفكارهم لا تخضع للتطوير والإبداع.
قبل ثورة 52، كانت الفنون الراقية مقصورة على الأثرياء فى القاهرة والإسكندرية فقط.. إلى أن تولى ثروت عكاشة، أحد الضباط الأحرار، مهمة بث الوعى الثقافى الشامل لكل طبقات المجتمع.
تأمل كل صرح ثقافى كان يبث التنوير (دار الكتب والوثائق القومية - أكاديمية الفنون - المعهد العالى للسينما - المعهد العالى للفنون المسرحية - المعهد العالى للباليه - الهيئة العامة للسينما - المؤسسة العامة لفنون المسرح والموسيقى وقاعة سيد درويش - مشروعات ترميم الآثار - .. إلخ)
وحين يغلبك الحنين للأبيض والأسود من إبداعات سينمائية وبرامج تليفزيونية تذكر أن عقل ثروت عكاشة هو بانى تلك الصروح الثقافية ومهندس روائعها، حيث ولدت من رحمها قوة مصر الناعمة العاكسة لأصالتها الحضارية التى غزت الشرق والغرب بوضع الفنون المصرية على خريطة العالم عبر استراتيجية «عين تسمع وأذن ترى».
فى جمعة حزينة أخرى عاشتها مصر أمس الأول بسقوط شهداء أوفياء فى حرب وجود على الإرهاب، تزامن هذا مع خروج حلمى النمنم، وزير الثقافة، بمبادرة للحرب على الإرهاب أطلق بنودها من وكالة أنباء الشرق الأوسط، وللأسف ما سمعته وما قرأته عن خطة الوزير هو منفصل تماماً عن التحديات الداخلية والخارجية التى نواجهها.. فقط أسطر جوفاء لا تقرأ واقعاً، لذا قزّمت الخطر ولا تفكر خارج حدود النمطية، فأخطأت الهدف.. ببساطة لم أجد رؤية.
عقب ثورة الـ30 من يونيو، أعلنت مصر حربها العسكرية على الإرهاب، ولن تحسم المواجهة العسكرية والأمنية وحدها تلك الحرب -مع عظم التضحيات- دون إطلاق المشروع الفكرى والثقافى المصرى. والأمر لا يقتصر فقط على تعديل الخطاب الدينى أو إعادة صياغة أجزاء منه، بل استنهاض مشروع النهضة الثقافية الشامل.. فالحرب على الهوية المصرية مستعرة منذ عقود. هل يملك الوزير رؤية لمجابهة فيروسات الحرب النفسية التى طالت عقول وأبدان المصريين بعد أن أصبحت مصر سوقاً لنفايات بعض الفضائيات وتدخل المال القذر فى صناعة السينما والدراما التليفزيونية بغطاءات محلية، وهل لديه أفكار مثلاً لمواجهة عواصف تبثها لحظياً وسائل التواصل الاجتماعى، فليصغ لنا الوزير مشروعاً لإعادة ترميم الهوية التى طالتها خروقات أحدثتها عولمة استحكمت أدواتها من السيطرة.. يعقبه تحصين لتلك الهوية الوطنية فى ظل الغزو العولمى الذى لن نستطيع منعه، ونحن كسائر دول العالم تحت سماواته المفتوحة.
على العقل الاستراتيجى إعادة النظر سريعاً فى القائمين على المشروع الثقافى -إن وجد- لسنا بحاجة لتجارب غربية أو شرقية، فنحن أصحاب تجربة رائدة.
لست حالمة عندما أرى مصر تستطيع استعادة زعامتها للمنطقة -مهما بلغت التحديات- بواقع إنسانى وثقافى وتاريخى وحضارى وعسكرى وإن نازعتنا أنظمة متبرئة من القومية تلهث وراء الطائفية وعادتنا أنظمة واهمة فى استدعاء خلافة بائدة، ولو ساند الغرب كياناً هو العدو التاريخى والأصيل.
مصر من الصعب أن تنحسر وتنكمش داخل حدودها، فقدرها منذ المهد أن تبنى وتحارب بروح واحدة، تلك الروح قادرة على صياغة مشروع الأمة الثقافى والحضارى المعبر عن حجم مصر الحقيقى تقوده وزارة حرب تعى أن القوة الناعمة هى سلاحها.
وقتها ستكون مصر على موعد مع جمعة يكون مبهجا يخلو من الألم على فراق شهداء.