إلى صديقي الذي لا أعرفه..
تحية طيبة وبعد/
لا أعرف عنك شيئا وأنت أيضا لا تعرفني، ربما لو رأيتك في مكان آخر لا أتذكر ملامحك ولن ألحظ حضورك، فكل ما يربطني بك هو ذلك الشارع، وفي نفس النقطة بالتحديد التي نلتقي عندها حيث يعمل كلانا.
لا نعمل بنفس المكان، ولكننا نلتقي كل صباح، أو عند الخامسة مساء بعد انتهاء يوم العمل، ربما تكون قد لاحظت مروري أيضا، ففكرة التقائك بنفس الشخص لمدة عام كفيلة بملاحظة وجوده، ابتسم ابتسامة هادئة خُفية، كتحية وإثبات للحضور، أو ربما إشارة لي تحديدا بأن هذا اليوم سيكون أكثر خفة مما قبله.
على هامش الإشارات، دعني أخبرك قصة أتذكرها كلما التقينا، شاهدت مرة منذ أكثر مما يزيد عن ثلاث سنوات، فيديو لفيلم قصير لـ "جيسون"، ذلك الشاب الذي كان يشعر ببؤس يسيطر على حياته بسبب روتينية يومه، يصحو بائسا، يذهب لعمله بائسا، يجلس على مكتبه بائسا دون حراك، إلى أن ساقه القدر –لإيماني بأن كل شئ يحدث لقدر وليس لصدفة- ليلمح فتاة في البناية المقابلة لعمله، لتلحظ هي وجوده فيرتبك، إلى أن تقرر هي أن تكسر هذا الارتباك بورقة مخطوطة بيدها، وبابتسامة هادئة مرحة تبدأ مرحلة جديدة بينهما، ليتبادلا حديثا مليئا بالحيوية والحياة عبر الأوراق، فتسيطر عليّ تحقق أمنية "حلمي" في فيلم آسف على الإزعاج "التلجاية وقفت في الشمس".
تنقلب حياته، فيتحول كل ما هو بائس إلى فرحة وجنون وشغف، تغيرت ملامحه، بات أكثر بهجة ومرحا وتقبلا للحياة، شاركته تفاصيل يومه وشاركها تفاصيل يومها وكل منهما في عمله في بناية مختلفة، إلى أن اعترفت له ذات مرة بأنها كانت تراقبه قبل أن يلمح هو وجودها، يتردد كثيرا قبل أن يخبرها أنه يريد رؤيتها، وقبل أن يبادر بطلبه جاءها شخص وأخذها لخارج مكتبها، تركت مكتبها منذ تلك اللحظة ولم تظهر ثانية، ولم يعرف عنها شيئا، عاد إلى بؤسه وضعُف شغفه، إلى أن انعكست أشعة الشمس على عينيه ذات مرة، وتقف هي محاولة الوصول إليه عبر مرآة ثبتتها باتجاه الشمس، ليجدها أمامه في مكان آخر تبلغه عبر الورق أنها قد حصلت على ترقية وانتقلت إلى مكان آخر في نفس البناية.
اقترح الاحتفال بتلك الترقية فوافقت على الفور، فيستجمع قواه ويطلب رؤيتها، لتشير إليه برسالة بالموافقة، يهرول مسرعا إلى الشارع بكل ما أوتي من فرحة ولهفة، تصل هي الأخرى، ليكون هذا هو أول لقاء حقيقي بينهما، وقبل أن يشرع في الكلام، تحمل هي ورقة مخطوطة بيدها دون إبداء أي كلمة مسموعة اكمالا لما بدأوه. أقف أمام النافذة وأتخيل لو كنت تعمل في البناية المقابلة لي بشكل أقرب، فأضحك، وأتأكد أن هناك أشياء في الحياة يمكنها فعل الكثير، ويمكن أن يكن لمن نلتقيهم دون اقتراب وقع أكبر وأجمل ممن نعرفهم، لم نشبه قصة "جيسون وستاسي"، ولكن ربما لإيماني بالإشارات والرسائل الضمنية، وإيماني بأن كل شئ مقدر ويحدث لسبب، أحببت مرورك كل صباح، فأبتسم.
وربما تصبح أنت علامة هذا المكان طيلة السنوات القادمة، فكل مكان يحمل من البشر ما يميزهم.
كان حظ "جيسون" جيدا، فكانا كغريبين التقيا في منتصف طريق.. بهشاشة روح.. ونصف ابتسامة.. فتبادلا الحديث بنظرة عين مطفأة.. وقلب مهجور.. وبألفة.. تبادلا حديثا عابرا.. وتخيلت بينهما وعودا لنفوسهما البهية.. بألا يمسهما وجع.. ولا نقص.. ولا اغتراب.. ليلتقيا في طريق جديد يجمعهما سويا.
لم أسمك غريبا، رغم أنك الأحق بهذا اللقب، ولكن من أسميته غريبا وكتبت باسمه العديد من الرسائل بات غريبا مدى المدى.
فلِما للأصدقاء من قدرة على جعل الحياة أكثر سلاما وأخف وطأة؛ سأسميك صديقي الذي لا أعرفه، وسأتمنى مرورك الخفيف كل صباح لعلي أجد منه أسبابا ليوم أقل بؤسا، ولتتنظر رسائلي هنا لعلنا نجد فيها براحا عما نعيشه ولم نقدر على البوح به.
صديقتك التي لا تعرفها.