قالها الدكتور صبرى عبدالرءوف صريحة مدوية: «حلال معاشرة الزوج لزوجته الميتة»، برغم أنه قال إن «ذلك أمر شاذ لا يأتى به شخص طبيعى»، ولا نعرف كيف يكون الأمر الشاذ حلالاً!!
وقالتها الدكتورة سعاد صالح صريحة ومدوية: «بعض الفقهاء أجازوا معاشرة البهائم»! رغم أنها هى نفسها لم تقل لنا هل تؤيد آراء الفقهاء الذين تقصدهم أم لا!!
وقال غيرهما جواز أكل لحم الأسير.. وقال غيرهم بما يسمى «الحمل المستكن» الذى قال به كثير من الفقهاء وهو جواز أن تحمل المرأة بجنينها لسنوات!! رغم ثبوت عدم إمكانية ذلك علمياً وإلى حدود اليقين.. وقال غيرهم بعدم إباحة تقديم المسلم التهانى لغير المسلم.. دون أن يفكر أصحاب الفتوى قليلاً عن سؤال منطقى ربما يكون مكرراً وهو: «كيف يبيح الزواج منهم وتكوين أسر مختلطة الأم غير مسلمة وأخوال الأبناء غير مسلمين وهى أعلى مراحل العلاقة بين الناس.. ثم يمنع تقديم التهانى لهم فى أعيادهم؟!».
وهكذا يمكننا السير مع تلك الفتاوى حتى ينتهى المقال وربما حتى ينتهى عدد «الوطن» كله، وهى كلها شاذة يرفضها العقل ولا يقبلها المنطق وتتعارض مع الفطرة السليمة التى أبلغنا القرآن العظيم أن الله سبحانه قد فطر الناس عليها!
وأصل القصة ليس كما يصوره البعض أن هناك مدسوسات فى التراث الإسلامى أو أن هناك فتاوى بنت عصرها لكنها محل إجماع العلماء أو أن بعض الفتاوى المتشددة هى وليدة ظروف خاصة وانتهت بانتهاء هذه الظروف وأن الحل هو تجديد الخطاب الإسلامى إنما عن طريق الرد على هذه الفتاوى أو شرحها للطلبة بطريقة عصرية أو حتى حذفها من المناهج المدرسية على طلبة الأزهر.. لو كان كل ذلك صحيحاً ما رأينا ولا سمعنا بفتاوى «الميتة» و«البهائم» فلا هى سمعناها من المناهج الدراسية ولا سمعناها من طلبة يشقون طريقهم للعلم ولا سمعناها من فوق منابر المتطرفين.. إنما سمعناها من أزهريين وأساتذة كبار ربما تجاوزوا سن المعاش..!!
إذاً ما المشكلة؟ أين جوهرها؟ ونقول صراحة إن جوهرها الذى لا يريد أحد أن يتكلم فيه هو منهج التفكير نفسه ومنه نعرف منهج الإفتاء.. وهنا نقف أمام مدرستين لا ثالث لهما فى فهم الإسلام.. الأولى هى مدرسة النقل.. أى نقل الاجتهادات والفتاوى من جيل وراء آخر.. من علماء إلى علماء.. ثم تحصين ما قالوه بمبدأ «إجماع العلماء»، وأن هؤلاء هم «التابعون»، وبالتالى فلا كلام مع الإجماع.. وهذه المدرسة فى الفتوى تفهم نصوص القرآن على ظاهرها.. دون الوعى بروح النص ومضمونه والهدف من نزوله.. ودون إدراك أن الآيات القرآنية أنزلت لتنظم حياة الناس قبل أن تنظم عقابهم وحسابهم.. هذه المدرسة هى السائدة وإليها ينتمى كل أو الأغلبية الكاسحة من رجال الدين اليوم.. ولذلك تابعوا أى عالم دين فى أى قناة فضائية أو إذاعية.. وتابعوا ردودهم على أى سؤال.. ستجدون على الفور بعد الصلاة على رسول الله، عليه الصلاة والسلام، وتحيته، الرجوع على الفور لكلام الأقدمين وحتى نهاية الإجابة! ولا حتى كلام الأقدمين للاستئناس به وتذكير الناس به ثم يقول المتحدث برأيه هو.. باعتباره قد اكتسب من العلم مثل الأقدمين وربما بالتراكم عبر مئات السنين يكون هو لديه حصيلة أكبر منهم.. إنما لا.. يعودون لفتاوى وآراء أجاب عنها السلف منذ مئات السنين دون أى اعتبار للتطور الذى جرى فى الحياة وشئونها وتنوعها وتفرعها ومتطلبات الإنسان الآن فى هذه اللحظة التى ينتظر فيها الإجابة وليست اللحظة التى سأل فيها إنسان آخر فى زمن آخر مر على سؤاله فيها مئات السنوات!
المدرسة الثانية هى مدرسة العقل.. والتى تصر على إعمال عقلها فى اللحظة نفسها التى يتصدى المؤمنون بها للإفتاء والإجابة عن أسئلة الناس.. وهؤلاء يحترمون السابقين ويبجلونهم ويوقرونهم ولا ينبغى إلا ذلك.. لكنهم يقولون هم رجال ونحن رجال.. وهم مكلفون ونحن مكلفون.. وإن العقل مناط التكليف لا ينبغى فهم الدين إلا به.. ورموز هذه المدرسة هم من وضعهم الناس فى مكانة كبيرة جداً حتى دون قصد لكنهم أحبوهم دون تفاصيل.. فالإمام أبوحنيفة أحد رموز هذه المدرسة وقد سماه الناس الإمام الأعظم.. والإمام محمد عبده أحد رموزها وقد سماه الناس الأستاذ الإمام.. وقبلهما ابن عباس وهو ترجمان القرآن.. وكان الإمام على من مؤسسيها فى فهم النصوص وهو «باب مدينة العلم»، وفى التفسير ينتمى إليها الشيخ الشعراوى، وقد سميناه إمام الدعاة، ولو كان ارتضى بما توصل إليه السابقون من تفسير للقرآن ما كان تفسيره الذى سماها تواضعاً «الخواطر» لأنه يعلم أن كلامه ليس القول الفصل وربما يأتى من بعده من يجىء بأفضل مما جاء!
الخلاصة أننا أمام مفترق طرق.. إما أن ننقذ ديننا وأنفسنا من هذا العبث الذى يحدث له.. وإما ستظل مثل هذه الفتاوى مستمرة.. وكل مرة يحال أحدهم للتحقيق.. لننتظر بعده فتوى جديدة من شيخ آخر كل مهمته هى نقل فتاوى السابقين.. الخلاصة أننا لا نريد تغيير مناهج أو رداً على فتاوى قديمة وشرحها.. إننا نريد إطلاق عقول العلماء فى فهم دينهم وتفسيره.. وليس إرهابهم كلما فعلوا ذلك رغم أنهم قد يخالفون آراء الأقدمين والسابقين وليس القرآن نفسه ولا سنة رسولنا العظيم..
وإن كانت مهمة رجال الدين الأساسية هى مطابقة الشرع على الواقع، فواقعنا الحالى يحتاج إلى آراء جديدة.. فتاوى جديدة.. رؤى جديدة.. حتى لو أخطأوا.. فمن اجتهد وأصاب له أجران، ومن اجتهد وأخطأ له أجر واحد.. ويصوب بعضهم لبعض ويصوب الأزهر للجميع.. شرط حسم الأزهر للمسألة.. العقل أم النقل.. ولا نعرف كيف نكون فى القرن الحادى والعشرين ونسأل هذا السؤال؟!