في صباح 1 مارس 1965، استيقظ جمال عبدالناصر منزعجا على خبر منشور في الصفحات الأُول للجرائد اليومية الكبرى، "الأهرام والأخبار والجمهورية"، وقتها، بشأن قرار حكومة صدقي سليمان رفع سعر الجاز الأبيض، "الكيروسين"، الذي كان الوقود الأساسي لجموع المصريين آنذاك، ثم إنه - وهو الرئيس- آخر من يعلم في هذا البلد!
وعلى عهدة محمود الجيار، مدير مكتب الرئيس الراحل، كان هناك خبر آخر منشور في نفس اليوم على الصفحات الأولى لكل الجرائد، عن اكتشاف "بير بترول" جديد في منطقة خليج السويس، وهو ما أشعل غضب عبدالناصر أكثر، فهدد بإقالة الحكومة على اعتبار أن ليس فيها "رجل رشيد" يستطيع أن يكتشف التناقض الفاضح بين اكتشاف "البير" وغلاء الكيروسين.
وطلب من معاونيه أن يأتيه خلال 24 ساعة تقرير عاجل ومفصّل، عن رأي الناس في رفع سعر "الجاز" من 7 مليمات إلى 20 مليما، دفعة واحدة.
وفي المدة المحددة، ورد إلى عبدالناصر تقرير مطوّل تحت عنوان "رئاسة الجمهورية العربية المتحدة.. سري جدا"، جاء فيه، نقلا عن الكاتب الراحل ضياء الدين بيبرس بتصرف: "أثار قرار حكومة السيد صدقي سليمان بإخراج الكيروسين من بطاقات التموين وطرحه للتداول الحر في السوق، مع رفع سعره إلى 20 مليما، أي ضعفي سعره السابق في البطاقات، موجة من القلق في البلاد، نظرا لتوفر عنصر المفاجأة فيه، ووضعه الجماهير أمام الأمر الواقع".
وانتقد التقرير، وهو وثيقة رسمية بالغة الشفافية والصراحة، صدور هذا القرار بالتزامن مع حملة صحفية عن الاكتشافات البترولية الجديدة: "التي يعيش الناس بعدها آملين فيما يمكن أن تحققه هذه الاكتشافات من خير للدولة والشعب"، واصفا المبررات التي ساقتها الحكومة لإصدار القرار بأنها "سطحية".
وكان من هذه المبررات دعوى الحكومة أنها بذلك تحارب "التجار المستغلين" الذين يبيعون الجاز في السوق السوداء بـ10 مليمات، وهو ما اعتبره التقرير "تهربًا من مسئولية قمع هؤلاء التجار"، ناهيك بـ"التذّرع غير المنطقي بأن القرار سيحقق وفرا قدره 2.5 مليون جنيه سنويا لموازنة الدولة ضمن بند دعم الوقود، في حين أن الحكومة استطاعت توفير 48 مليون جنيه نتيجة لضغط مصروفاتها الدورية خلال النصف الأول من السنة المالية الحالية، وكان يمكنها بمزيد من الضغط على بعض المصروفات الترفيهية خلال النصف المتبقي من السنة المالية، توفير ما يزيد على الاعتماد المالي المُخصص للكيروسين في الموازنة العامة".
ورصد التقرير السري، نصا، كيف أنه "لا يوجد بيت في الجمهورية العربية المتحدة لم يتأثر بصورة أو بأخرى من هذا القرار"، وكيف أن "أجهزة التموين أخذت تطبّل وتزمّر في الشهور الأخيرة حول قرار خفض أسعار الأحذية واللحوم والملابس الجاهزة، لكنها مسحت بقرار رفع سعر الكيروسين كل فضل لها، ثم لم يعد لها صوت الآن"! ورحم الله العربي القديم، الحكيم، وهو القائل: ألا ما أشبه "ليلة الحكومات" بالبارحة!