ثلاثة مواقف قد يعتبرها البعض عابرة لكنها بالنسبة لى عبرة معتبرة..
حضن طنطا
وما حضن طنطا إلا فعل أهوج من شباب هم أبناؤنا وإخوتنا وزهور الوطن، الحضن الذى قلب مصر ولم يعدلها بعد، وأجج حراك المصريين الذين لا يؤججهم سوى الشديد القوى، ودار دورته على أبواب مدينة الإنتاج الإعلامى، وأيقظ قرون استشعار الأخلاق والاستنفار السلوكى من غفوته العميقة وغيبوبتها الشديدة يلقى ضوءاً كثيراً على خيبتنا القوية وهمتنا غير العتية.
حضن الطالب زميلته، وفى أقوال أخرى صديقته، وفى ثالثة خطيبته المستقبلية، فى تصرف علينا أن ننعته بـ«الأهوج» وغير المدروس. صحيح أن ملايين الأحضان غيره بدرجاتها المتفاوتة على مقاييس ريختر من البراءة إلى المزج بين أصالة الحب الأفلاطونى ومادية الاستمتاع الحسى، تدور رحاها على مدار الساعة بين أقران جريمة الحضن فى طنطا، ولكن الفارق الكبير والمحورى هو أنها تدور خلف الأبواب المغلقة أو فى الخرابات المهملة. بمعنى آخر فإن ما جعل من حضن طنطا قضية رأى عام ومسألة أمن وطنى، هو أنه حدث فى الجهر وتحديداً فى حرم الجامعة.
وعلى الرغم من أن التصرف فى حد ذاته جانبته الحكمة وخاصمته القدرة على التقييم، إلا أنه أيضاً -وكما هو متوقع- تم النفخ فيه والتعامل معه من منطلقين معروفين لا ثالث لهما؛ المنطلق الأول هو الأبسط والأهون، وهو منطلق احتياج الفضائيات المستمر لـ«جنازة يشبعوا فيها لطم» أو «حبة يعملوا منها قبة» أو أى شىء يؤجج دقائق البث ويحمى لهيب قعدات النقاش والتنظير الليلى التى ينتج عنها تقسيم كعكة الإعلانات، وتوزيع ريع وفوائد الودائع.
والمنطلق الثانى هو انطلاق جماعات الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، المؤسسة شعبياً والمكرسة معنوياً والمسكوت عنها (وأحياناً المدعومة) رسمياً، لتعلم الناس الشرف وتلقنهم العفة وتعطيهم دروساً ومواعظ فى شئون الأخلاق وأمور القيم. وكما هو معروف أيضاً فإن الملف الوحيد الذى يوقظ هذه الجماعات هو كل ما يحتوى على تاء التأنيث.. «فلانة ترتدى ملابس غير لائقة»، «فلانة تتحدث بطريقة غير محترمة»، «فلانة تضحك بصوت عالٍ»، «فلانة تتطرق إلى موضوعات لا تصح»، «فلانة بان صباع رجلها الشمال»، «فلانة يمكنها أن تتزوج طالما بلغت»، «فلانة يمكن مناكحتها حتى لو ماتت»، «فلانة أجازوا معاشرتها رغم أنها بهيمة».. وهلم جرا.
وجرى العرف وجرينا معه واعتدنا أن قطاعاً كبيراً من المصريين لم يعد يضايقه قبح المعمار، وقذارة البيوت، وتلال القمامة فى الشوارع، وقيادة السيارات دون قواعد أو سلوكيات، والعمل دون ضمير مقبول طالما الموظف يصلى الصلاة على وقتها، واعتبار الاستحمام والنظافة الشخصية أموراً اختيارية ومن الرفاهية، والتمعن فى أجساد النساء من الأمور العادية، وسب الأديان فى ليل رمضان جائز طالما نصوم نهاره، وهكذا. ومن ثم، فإن كل ما يحيط بنا من انتهاكات أخلاقية وخروقات سلوكية ومجازر فكرية، لا يعنينا فى شىء طالما مظهرنا ينم عن التزام، ومفردات حديثنا تعكس انتماءً دينياً مباركاً.. وفى رأيى هذا ما يفسر نصب المقاصل وإقامة المحاكم وإصدار الأحكام المشددة على الحاضن والمحضون فى جامعة طنطا.
أذان القاهرة
فى تجمع عمرانى حديث جميل على أطراف شرق القاهرة جدل مستعر وعراك نقاشى محتدم وسجال فكرى مشتعل.. التجمع العمرانى يحوى بالطبع عدداً من المساجد.. ورغم استخدام الاختراع الغربى من «بلاد الكفر والإلحاد» والمسمى بـ«الميكروفون» لبث الأذان، إلا أن البعض من السكان اشتكى من انخفاض الصوت، وطالب بضرورة رفعه، بما فى ذلك أذان الفجر. البعض علل ذلك بأنه لا يعرف مواقيت الصلاة، والبعض الآخر قال إن البلاد بلاد أغلبية مسلمة ويجب على الجميع أن يسمع الأذان بصوت واضح. فريق ثالث رأى فى الأذان وسيلة طيبة لدعوة غير المسلمين إلى الإسلام.
وعلى الجبهة الأخرى، دافع سكان آخرون عن الحق فى الهدوء مع التأكيد أن صوت الأذان الحالى ليس منخفضاً ومن لا يصله فعليه بتطبيقات المحمول أو ريموت التليفزيون أو مؤشر المذياع، لا سيما أن صوت الأذان الحالى يصل إلى الغالبية.
وكما هو متوقع، جاءت الردود من الجبهة الأولى متراوحة بين تأكيد الرغبة فى زيادة عدد المساجد وكم الميكروفونات، وأن خمس دقائق خمس مرات فى اليوم ليست بالأمر الصعب ويمكن لمن يود النوم أن يعود للنوم بعدها، واتهامات بأن غير الراغبين فى تعلية الصوت هم من غير المصلين وغير المحبين للدين (رغم عدم وجود سابق معرفة أصلاً).
الطريف أنه فى خضم هذا السجال المحتدم، يصرخ مئات الأطفال فى حدائق التجمع العمرانى نفسه تحت مسمى «إنهم يلعبون»، صراخاً مدوياً على مدار ساعات اليوم، لا يكلون أو يملون. والغريب أيضاً أن السجال المحتدم حول صوت الأذان لا يعرف طريقه إلى الشكوى من صوت «أحباب الله». ورغم أن من يشكون صراخ الأطفال هم تقريباً من يعارضون صوتاً أعلى للأذان، إلا أن أحداً من الجبهة الأخرى لا يوجد فى مثل هذه الأحوال. لا تسمع صوتاً لـ«حق الجار» الوارد فى الأديان، أو بديهيات الذوق والإحساس المنصوص عليها فى الكتب المقدسة أو أصول التربية والتنشئة التى حث عليها كل الأنبياء. غاية القول أن العبادات فى وادٍ والمعاملات فى وادٍ آخر، ويرجح البعض أن تكون فى بئر عميقة بعيدة.
أذان مالطة
الأذان فى مالطة ليس موقفاً بالمعنى المعروف، لكنه فى ضوء ما تقدم من شرح لموقفين معبرين، يعتبر شعار المرحلة. فكل ما يثار حول الحقوق المدنية والمواطنة على أساس المساواة وليس الفوقية الدينية ومواجهة هسهس «التديين»، ولا أقول الدين والتدين، مجرد «أذان فى مالطة».