جميل أن نُمدّد طرقاً ونبنى مدناً ونقيم منشآت، فعدد المصريين يزيد بنسب كبيرة كل عام، لكن حبذا لو تكاملت المعادلة، وفكرنا فى الإنسان، كما نفكر فى المكان. استمعت إلى العروض التى قدمها مجموعة من شباب مبادرة «رواد تكنولوجيا المستقبل» أمام الرئيس أمس الأول، سعدت بحالة التوثّب والرغبة فى الإبداع والابتكار التى كان عليها الشباب، والأهم وعيهم بقيمة وأهمية اقتصاد المعرفة الذى يجعل من المعرفة الفنية والإبداع والذكاء والمعلومات رأسمال حقيقياً يمكن أن يجلب الكثير على المستويات الفردية والمؤسسية، وبالطبع على مستوى الدولة ككل.
الشباب قوة هائلة يجب الاستفادة منها. والأجيال الجديدة يحركها أمران، أولهما الرغبة فى الكسب الكثير والسريع، وثانيهما الولع بالتكنولوجيا. الكسب الكثير والسريع فى تقديرى لا يعيب ما دام قائماً على «الحلال». من يستمع إلى شباب اليوم يجد أن العبارة التى تتكرّر على ألسنتهم تتمثل فى «أبحث عن فكرة أربح بها». رأيت نماذج كثيرة لشباب فى العشرينات يكسبون كثيراً من خلال إعداد برامج الكمبيوتر التطبيقية، أو شرح موضوعات تكنولوجية لنظراء لهم فى دول العالم الأخرى عبر شبكة الإنترنت، وهذه المسألة ليست مقصورة على هذا الجيل من المصريين، بل تمتد إلى شباب العالم ككل، الذى يعتبر أن أسهل وسيلة للكسب تتموقع فى «الفكرة الجديدة» القادرة على تحقيق أرباح كبيرة وسريعة لصاحبها. أما ولع الجيل الحالى بالتكنولوجيا، فهو أمر لا يخفى، ولا جرم فى ذلك، فهذا الجيل تربى فى أحضان التكنولوجيا، بل قل يعيش فى أحضانها، وتوجيه الشباب إلى الاستثمار النافع لما أتاحته التكنولوجيا من أدوات، ورعاية تجاربهم فى مجال بناء البرامج، خصوصاً برامج الذكاء الاصطناعى جدير بأن يضيف الكثير إلى التجربة التنموية فى مصر.
نحن نعيش عصراً تراجعت فيه قيمة الاستثمار فى الأرض وما تخرجه الأرض، أمام تقدم واضح لفكرة الاستثمار فى البشر. لو أنك قرأت أرقام عائدات شركة مثل «أبل» لأدركت ذلك. نشرت الشركة أنها حقّقت عائدات إجمالية خلال الربع الثانى من 2017 تبلغ 59.2 مليار دولار، بهامش ربح صافى نحو 11 مليار دولار، مما يعنى أن الأرباح السنوية للشركة تصل إلى 44 مليار دولار، قِس على ذلك أرباح شركة «مايكروسوفت»، وغيرها من الشركات التى تعتمد على إنتاج البرامج، أو تقديم منتجات تعتمد على برامج الذكاء الاصطناعى. الاستثمار فى البشر يمكن أن يُحقّق نقلة خيالية فى مسارنا التنموى. المبادرات التى تتبنّاها الدولة فى هذا السياق جيدة، لكن التوسّع فيها والوصول بها إلى الشباب المصرى فى كل مكان فى مصر ضرورة، ورعاية المواهب المتميّزة فى هذا المجال فريضة، وما أكثر المواهب التى يمكن أن يفرزها تراب هذا البلد. وقد يكون من المفيد فى هذا السياق أن تتحول مبادرة «رواد تكنولوجيا المستقبل» إلى مشروع قومى كبير، يتم التعامل معه بنفس الفكر ومستوى الأداء الذى يتم التعامل به مع المشروعات القومية التى تعتنى بتنمية المكان. فكلا النوعين من المشروعات مطلوب، وقد تُحقّق المشروعات التى تستثمر فى الشباب عوائد أكبر.