مع تساقط أوراق الخريف أمام شرفتى الصغيرة متشحة بألوان الرحيل.. مستسلمة لوعد رياح لا تنسى المواعيد.. ولا تنعى الراحلين وككل عام.. عبثت أناملى بأوراق النتيجة بحثاً عنه.. ذلك اليوم الفارق فى حياتنا فلا يزال أجمل ما نحمل من كبرياء الوطن.. أتوارى من نفسى خجلاً وضآلة أمام رجال صنعوا التاريخ.. تعترينى ذكريات.. كلمات أكتبها استسلاماً لشجون كل عام ثم أضن عليها ببعض النور لتظل حبيسة درج مظلم، فهل تسمح لى يا قارئى العزيز بأن أفتح درجى الصغير، أنفض التراب عن بعض ما يئن به.. أصحبك معى فى رحلة بين حروف اختلط فيها الخيال بواقع لا يقل روعة عنه.. على أن تترفق بحكاياتى وشجونى.. فهى طيف من الماضى يلتمس على استحياء أن يذكرنا بما لا يجب أن ننساه.. إنها شجون أكتوبرية.
منذ زمن طويل لم أحتفل بيوم الوطن خارج حدود الوطن.. حيث تمتزج الذكرى بنكهة الحنين.. فتزيدها وهجاً وعمقاً.. أبحث دون جدوى فى الوجوه عن ذلك الوميض منا.. عن عيون تشبهنا.. يلحظ البائع المحنك فى قسمات وجهى لمحة مصرية لا أعرف كيف فملامحى ليست كذلك.. يبادرنى بلغة الضاد.. أرد وفرحة طفل بقطعة حلوى تذوب فى الوجدان.. أندهش من نفسى فلم يمض إلا يومان من الاغتراب.. أتذكر اشتياقى الدائم للسفر وحبى للترحال.. الذى لا يلبث أن ينطفئ بعد عدة أيام من البعد.. لتنتابنى دموع غير منطقية (زى العيال لما بترجع فى كلامها) رغم يقينى بموعد العودة.. أتأمل دفاترى وأوراقى الإلكترونية.. وقائمة انتظار طويلة لأبطال سدوا عين الشمس.. لكنهم لا يملون الصمت.
إوشريا ساع اوى.. إنها أهم كلمة فى القاموس العسكرى المصرى فى العصر الحديث وكلمة السر فى ملحمة العبور.. إنها ساعة الصفر.. وتعنى (اضرب الساعة اتنين) ولكنها باللغة النوبية.. أحمد إدريس شاب أسمر من أهل الجنوب وكما جُبل أقرانه تطوع فى قوات حرس الحدود ليحمل شرف الدفاع عن الوطن.. ابتسم وهو يرى محاولات قادته للوصول لشفرة لا يستطيع العدو الإسرائيلى اكتشافها بديلاً لسابقات استطاع حلها أكثر من مرة.. وإذا بالشاب الجنوبى يخبرهم أن الحل سهل جداً وأمامهم.. وهو استخدام اللغة النوبية إحدى أقدم اللغات الحية.. فهى لغة تُنطق ولا تُكتب بعد أن فقدت أبجديتها وانقرضت منذ القرن العاشر تقريباً وتوارثتها الأجيال نطقاً فقط، مما يجعل تناقلها وفك طلاسمها أمراً مستحيلاً إلا بواسطة أصحابها وهم جميعاً فى نطاق جغرافى واحد.. مصر.. بحسه العسكرى اليقظ استمع الرئيس السادات بالفعل للمقترح.. وطالب من أبلغه بالسرية المطلقة.. وتم لقاء القائد الأعلى للقوات المسلحة فى اليوم التالى بالشاويش الذكى مكبلاً بالأغلال التى حيرته كثيراً حتى طمأنه السادات بدهاء رجل الحرب أن حضوره لرئاسة الجمهورية يجب أن يكون له مبرر معلن.. وظل سر اللغة النوبية مقصوراً على 5 أفراد فى الجيش المصرى كله منهم الرئيس نفسه، الذى أعلن أن تسريب هذا السر ليس له سوى عقاب واحد هو الموت.. وبالفعل تمت الاستعانة بـ70 من أبناء مصر السمر الشداد فى حرس الحدود، ليكونوا هم مسئولى إرسال واستقبال الشفرات الشفوية التى لا تُكتب وترجمتها للقادة.. ومنذ عام 71 وعلى مدار عامين كانوا يقومون بمأموريات فى عمق الجبهة المحتلة وتنجح المهمة وتناقل المعلومات بدون خطأ من خلال هؤلاء الأبطال المجهولين الذين عادة ما نبتسم عندما نسمع أحاديثهم المنغمة السريعة معاً دون أن ندرك فضلهم علينا جميعاً.. وبالفعل انطلقت لكل القادة فى يوم السادس من أكتوبر كلمات غامضة أثارت جنون العدو الذى لم يستطع أن يحل طلاسمها أبداً إنها (اوشريا ساع أوى) أو اضرب الساعة 2.. وككل النجوم المتلألئة بعيداً نحلم أن نصل إليهم، بحثت عن وسيلة للتواصل مع عم أحمد إدريس.. واستطعت أخيراً أن أحدثه تليفونياً.. لأقول له كلمة واحدة.. لن ننساك...وللحديث بقية.