مع تساقط أوراق الخريف أمام شرفتى الصغيرة، متشحة بألوان الرحيل.. مستسلمة لوعد رياح لا تنسى المواعيد.. ولا تنعى الراحلين وككل عام.. عبثت أناملى بأوراق النتيجة بحثاً عنه.. ذلك اليوم الفارق فى حياتنا، فلا يزال أجمل ما نحمل من كبرياء الوطن.. أتوارى من نفسى خجلاً وضآلة أمام رجال صنعوا التاريخ.. تعترينى ذكريات.. كلمات أكتبها استسلاماً لشجون كل عام، ثم أضن عليها ببعض النور، لتظل حبيسة درج مظلم، فهل تسمح لى، يا قارئى العزيز، بأن أفتح درجى الصغير، أنفض التراب عن بعض ما يئن به.. أصحبك معى فى رحلة بين حروف اختلط فيها الخيال بواقع لا يقل روعة عنه.. على أن تترفق بحكاياتى وشجونى.. فهى طيف من الماضى يلتمس على استحياء أن يذكرنا بما يجب ألا ننساه.. إنها شجون أكتوبرية.
أسد سيناء
فى عام 1996، طلب رجل أعمال يهودى لقاء السفير المصرى فى ألمانيا.. وبدبلوماسية محترف كان اللقاء بنصف ابتسامة، ليفاجئ الضيف السفير بإخراج سلسلة عسكرية قديمة لمحارب يحتفظ بها بعناية.. ثم أخرج من سترته بحرص ورقة أصفر لونها من طول السنين.. رسالة باللغة العربية من جندى مصرى لوالده.
وبدأ المحارب القديم يقص حكاية حملها معه 23 عاماً ظلت تطارده حتى فى أحلامه.. ليكمل السفير الحكاية من سجلات القوات المسلحة
كانت شمس تشرين 73 ترحل والليل يأتى زاحفاً متوعداً الحياة بليلة قدرية.. وهو شاب أسمر جنوبى الملامح استطاع لغم أن يشى بكتيبته، ويفقده أحد زملائه فى ممرات جبل الجلالة القاسية بمنطقة رأس ملعب بسيناء، لتضطر الكتيبة للقتال، متسترة خلف إحدى التبّات بتشكيل دائرى فى مواجهة 50 دبابة للعدو الإسرائيلى، وبعض طائراته العسكرية التى ظلت تطالبهم بالاستسلام.. لكنهم رفضوا وظلوا يقومون بواجبهم العسكرى بقيادة النقيب صفى الدين غازى، ولأن صاحب العقيدة العسكرية لا يستسلم أبداً، فقد كبّدوا العدو خسائر كبيرة قبل أن يستشهد 7 من خيرة جنودنا، وعلى رأسهم القائد ولكن ظلت نيران الكتيبة بلا انقطاع، فعجز العدو عن إحصاء باقى أفراد الكتيبة العنيدة، فالنيران كانت تأتى من عدة اتجاهات لتصيب جنودهم فى مقتل، فأدركوا أن الأعداد الباقية كبيرة.. وأخيراً استطاع أحد الجنود اليهود الالتفاف من مكان ضيق، لتكون الكتيبة فى مرمى نيرانه.. وكانت المفاجأة.. فقد كان هنالك خلف التبة جندى واحد فقط.. هو من يقاتل بدلاً من أن يلوذ بالفرار من موت محقق، أو يستسلم مستجيباً لنداءات اليهود لينجو بحياته.. كان يقفز كما الأسد الثائر بين المدافع ليطلق من كل واحد منها ما كان كافياً لقتل 22 جندياً إسرائيلياً وحده بعد وفاة كل زملائه، فقد كانت الكتيبة مكونة من 8 أفراد فقط..
ويستشهد البطل أخيراً.. بعد أن ظل يحارب ويدافع عن أرضه لآخر نفس.. ومضى ركب الأعداء، ولكن لم يستطع الجندى الإسرائيلى أن يرحل ويتركه هكذا.. فقد شعر تجاهه باحترام وتقدير.. وأدرك أن الحياة لن تمنحه شرف لقاء رجل مثله كثيراً، حتى لو كان لقاءً بين عدوين.
احتفظ بمتعلقاته وهويته وسلسلته العسكرية.. وقرر ألا يتركه فى الصحراء تنهش جثته الضوارى، فهو يستحق التكريم حتى بعد موته.. دفنه.. ووقف على قبره وقد خلع غطاء رأسه، ليطلق 21 طلقة تحية لروحه.
وتمر الأيام والسنون، وما زالت مقتنيات المحارب الجسور تعلن للكون أنه كان هنالك فى قلب الصحراء رجل مؤمن بقضيته لم ترهبه كثرة الأعداء ظل يحارب ويدافع عن أرضه ببسالة فى مواجهة جيش كامل حتى الموت..
إنه المقاتل سيد زكريا، أحد أبطال 73 المفقودين الذين لم يعودوا ولم يعثر عليهم ولم يبلغ عن أسرهم حتى عام 1996 عندما اعترف الجندى الإسرائيلى بنفسه بقتله، وحكى قصة بطولته، فكانت شهادة العدو له هى وسام على صدر العسكرية المصرية.
وتتناول المجلات العسكرية الدولية قصة المحارب المصرى كمثل ونموذج لكيف يكون المحارب.. فقد سجل الشاب المصرى سيد زكريا اسمه فى التاريخ العسكرى بأنه كان رجلاً بكتيبة.. وللحديث بقية.