بينما كنت أتابع المعلومات الرئيسية عن مشروع «نيوم» أو مدينة المستقبل السعودية، التى أعلنها ولى العهد السعودى الأمير محمد بن سلمان أمام مؤتمر مستقبل الاستثمار، بحضور حشد كبير من أبرز رجال الأعمال ومديرى الشركات الكبرى فى العالم، صدر قرار جديد يسمح للمرأة السعودية بارتياد ملاعب كرة القدم فى ثلاث مدن كبرى، وهى الرياض وجدة والدمام فى العام 2018، والمفترض أن يتم لاحقاً توسيع دائرة الملاعب التى يُسمح للمرأة السعودية بارتيادها، القرار يتعلق بالترفيه المشروع، وبتوسيع حركة المرأة السعودية من خلال التخلص من بعض القيود التى تحد من انطلاقها «كمواطن» كامل الأهلية له الحق فى التعبير عن نفسه، وفى الاستمتاع بالحياة طالما أنها أمور مشروعة ولا تتصادم مع الأسس الدينية التى يؤمن بها المجتمع، ويلاحظ هنا أن الترفيه من سينما وحفلات موسيقية ومهرجانات رياضية مفتوحة لكل أفراد الأسرة السعودية ومنتجعات سياحية تجذب السعوديين وغير السعوديين تعد واحدة من القطاعات التى تعتبرها رؤية 2030 واعدة وإحدى وسائل إحداث نقلة كبرى فى السلوك العام وتؤدى إلى تطبيع الحياة اليومية كما هو موجود فى بلدان العالم.
القرار الجديد هو امتداد لقرار سابق نال حظاً كبيراً من التحليلات والتفسيرات، وهو السماح للمرأة السعودية بقيادة السيارات اعتباراً من منتصف العام 2018، الذى عبر عن قناعة القيادة السعودية بأن البلاد بحاجة ماسة وعاجلة إلى قرارات جريئة فى المجال المجتمعى، كما هى بحاجة ماسة إلى سياسات جديدة وأفكار حالمة ولا تخلو من خيال فيما يتعلق بالمجال الاقتصادى والاستثمارى، كما هى بحاجة شديدة لا تحتمل التأجيل للتخلص من ميراث فكرى وقيمى عام سيطر على المجتمع فى العقود الأربعة الماضية، يحمل سمات التشدد ويحول دون الانفتاح على العالم، كما أنه يثير الكثير من المتاعب والمصاعب أمام المملكة، فضلاً عن كونه مسئولاً عن شيوع صورة سلبية عن المجتمع السعودى فى وسائل الإعلام العالمية، كثيراً ما تم توظيفها فى الضغط السياسى على المملكة، لا سيما بعد أحداث 11 سبتمبر 2001 فى الولايات المتحدة، التى شارك فيها سعوديون.
وكما أشار الأمير محمد بن سلمان فى جرأة عالية أمام المشاركين فى مؤتمر الاستثمار وفى حوارات مفصلة مع وكالتى رويترز وبلومبيرج للأنباء إلى أن نية المملكة الآن هى تدمير هذا الميراث الفكرى الذى ارتبط بما عرف بالصحوة الإسلامية ذات الصلة بالإمام الخومينى منذ العام 1979 وقيام الجمهورية الإسلامية فى إيران، التى مثلت منافساً شرساً للدور السعودى القائم على تطبيق القيم الإسلامية، وهو ما كان له أبرز الأثر فى أن يدفع المجتمع السعودى إلى فعل مضاد تمثل فى رفع درجة التشدد الدينى وبروز تيارات متطرفة أسهمت فى مزيد من القيود على حركة المجتمع ككل، وصدّرت الكثير من هذه النماذج إلى مجتمعات أخرى عربية وإقليمية وأفريقية فزاد الأمر تعقيداً، ووفقاً لنوايا الأمير محمد فسيتم تدمير هذا الفكر وستعود السعودية إلى الإسلام الوسطى المتسامح.
التغيير الحادث فى المملكة السعودية هو نتاج طبيعى لثلاثة عوامل متداخلة، أولها فكر القيادة وإيمانها بأن البلاد بحاجة إلى درب جديد وديناميكى يراعى مجمل الثورات الفكرية والصناعية والرقمية والاقتصادية التى تحدث فى العالم المعاصر، ومن شأنها أن توسع فجوة المعرفة والدور والقيمة بين المجتمعات وبعضها ما لم تؤخذ الخطوات الكبرى للحاق بهذه الثورات والاستفادة من نتائجها المبهرة. وثانيها التغيرات الكيفية التى أصابت المجتمع السعودى بفعل التوسع فى التعليم بدرجاته المختلفة طوال العقود الأربعة الماضية، والتى جعلت شباب المملكة -الذين يمثلون 70 فى المائة من سكانها حسب تصريحات الأمير محمد بن سلمان- بمثابة قوة تغيير لا يمكن تجاهلها، وقوة مجتمعية بحاجة إلى مراعاة طموحاتها الطبيعية فى فرص العمل والانفتاح على العالم والاستفادة مما يحدث فيه، ودون ذلك تصبح الأمور أكثر تعقيداً على الكل، والعامل الثالث الإدراك العميق بأن الاعتماد على النفط كمصدر وحيد أو غالب فى الاقتصاد الوطنى يمثل خطورة على مستقبل المملكة القريب، وأن الفطنة تقتضى توسيع مصادر الدخل القومى ومصادر الاستثمار وتوسيع فرص العمل من خلال ارتياد مجالات جديدة فى التعدين والسياحة والشراكات الاقتصادية الكبرى والتصنيع بما فى ذلك التصنيع العسكرى مع شركات عالمية عتيدة فى هذا المجال، والخدمات البنكية المتطورة والطاقة المتجددة والذكاء الاصطناعى والاقتصاد الشبكى والرقمى.
العوامل الثلاثة تبدو واضحة فى وثيقة رؤية المملكة 2030 التى سبق الإعلان عنها فى 2016، وتبدو أكثر وضوحاً فى مشروع «نيوم» المُعلن عنه مؤخراً، الذى إذا طُبق وفق التصور الحالم والمتخيل فى غضون عقد أو أكثر قليلاً فسيضع المملكة وشركاءها الرئيسيين من دول كمصر والأردن، ومن الشركات الكبرى والعملاقة فى المجالات الحديثة للاقتصاد والإدارة على درب جديد من التغيير الكيفى والكمى للاقتصاد وحركة المجتمع والناس على السواء، ومما لفت نظرى فى الحوارات الصحفية الثلاثة الأخيرة التى نشرت للأمير محمد بن سلمان استخدامه لفظ «الفرصة» أكثر من مرة للتدليل على أن مشروع «نيوم» ليس فقط مجرد مدينة جديدة بل هى مشروع للتغيير من خلال القفز للمستقبل بقوة وثقة، وأن هذه الفرصة ليست للمملكة وحسب، بل للإقليم والعالم معاً، ولكل الشركات الكبرى التى لديها أحلام كبرى وبلا حدود فى الخيال بشأن نمط الحياة فى المستقبل، والمعتمد على الاستفادة القصوى من الذكاء الاصطناعى فى كل مناحى الإدارة والاستثمار والصناعة والحياة اليومية للإنسان، ووفقاً للمشروع فإن المملكة ستوفر له 500 مليار دولار من أجل الانطلاق، وسيكون بمثابة أول مدينة رأسمالية فى العالم، يديرها مجلس محافظين ينتخبون أو يختارون مديراً تنفيذاً ستكون كل مهمته تحقيق النمو تلو النمو، ولنتصور أن تلك المدينة الحالمة قد بُنيت بالفعل وقدمت نموذجاً جديداً فى إدارة كل شئونها، فكيف سيكون حال المجتمع السعودى؟ ويذكر هنا أن إحدى نظريات التغيير المجتمعى تفترض أن تنشأ بؤرة حديثة ناجحة شكلاً ومضموناً فى عمق المجتمع المطلوب تغييره، وبحيث تشكل قاطرة تحديث لجر باقى قطاعات المجتمع ودفعه إلى إحداث التغييرات المطلوبة، وبذلك تتحقق عملية التغيير الكلى بتدرج ومن خلال الاقتناع الذاتى، وبالتالى تقل المقاومة والاعتراضات، وتزيد فرص التطوير المستهدف، وما يجرى فى المملكة يبدو وكأنه تطبيق لهذه النظرية، التى ثبت نجاحها فى العديد من البلدان، والصين خير شاهد.