انتهينا فى المقال السابق إلى أن الإرهابى مريض ولكنه لا يملك «مرآة نفسية» يرى نفسه من خلالها.. وإن وجدها فلن يستطيع أن يصل إلى حقيقة معاناته وآلامه النفسية التى جعلت منه هذا الكائن البشع لأنه يحتاج إلى علاج على يد طبيب متخصص.
«والمرآة النفسية» تلك تذكرنا بفيلم أمريكى بعنوان «الكره» بطولة الممثل الفذ «داستن هوفمان» وإخراج «بارى ليفنسون» تدور أحداثه داخل غواصة فى أعماق البحر بها عدد من العلماء.. فجأة يهاجمهم وحش رهيب كأنه قدر لا خلاص منه، ما نلبث أن نكتشف أنه ليس سوى مرآة نفسية تعكس مخاوفهم ورعبهم الإنسانى من المجهول.. ومن قسوة الاغتراب ومن غموض رحلة الوجود والعدم وفراغ الكون من المعنى والجدوى.. هذه المرآة تكشف -كما يرى الناقد السينمائى البارع «عصام زكريا»- أن الإرهاب أقرب إلينا من حبل الوريد.. ربما يسكن بيوتنا ويقاسمنا الفراش.. وربما يخرج من عقولنا.. وأسوأ أنواع الرعب هو الذى يسكن أعماقنا.. ويعزو الناقد الإرهاب فى أسوأ صوره إلى أسبابه المتصلة بالجانب النفسى.. حيث تكمن بذوره فى تعقيدات وعقد الطفولة التى يمكن أن تظل كامنة لسنوات طويلة قبل أن تنفجر فجأة، فقد تتراوح من انتهاك الطفولة والجسد بشتى الأنواع.. وتصل إلى الكبت الجنسى الشديد الذى يصبح فيه العالم مجرد شيطان للغواية.. كما تشمل الجذور فى الشعور القهرى بالدونية الناتجة عن قرون من الاستعمار والتخلف مصحوباً بخطاب جنون العظمة ناتجة عن الاعتقاد بالتفوق الأخلاقى والدينى والعرقى.. لذلك فلا غرابة أن تظهر فجأة نماذج بشرية كمتطرفين ينضمان إلى تنظيم «داعش» الإرهابى فى الوقت الذى ينتميان فيه إلى شرائح اجتماعية ثرية لا تعانى من شظف العيش.. العنف للانتقام من مجتمع ظالم وكافر يعانيان فيه من الفوارق الطبقية والقهر.. وانعدام العدالة الاجتماعية.. والبطالة.
وإذا كان من الواضح أن هناك علاقة بين مرض الفصام والجريمة -كما سبق أن أوردنا- حيث إن الفصامى يستجيب لأصوات هلاوسه كما يستجيب للهلاوس البصرية التى توجهه توجيهاً إجرامياً مباشراً.. فإننا يمكن تصور قاتل الكاهن.. وهو يرى الزى الأسود والعمامة بصرف النظر عن شخص القتيل هل هو القس «سمعان» أو غيره، ممزوجاً بصور الصلبان على قباب الكنائس.. وعلى صور المسيحيات.. هذه الضلالات والهذاءات المرضية تدفعه إلى القتل على (الهوية).. وهو ما حدث منذ فترة قصيرة من انقضاض شخص ملتحٍ على رجل مسيحى فى أثناء جلوسه أمام محل الخمور الذى يملكه فى الإسكندرية.. وذبحه جهاراً نهاراً على مرأى ومسمع الناس فى الشارع المزدحم بالبشر.. إن القاتل فى الحالتين لا يقتل شخصاً بعينه يعرفه معرفة وثيقة.. وسبق له التعامل معه عن قرب ويناصبه العداء لأسباب ناتجة عن احتكاكات أو مشاحنات بينهما.. ولكنه يقتل «الفكرة» أو «الرمز» الذى يتلخص فى أن الضحية «مسيحى» وكل مسيحى كافر.. وكل مسيحى كافر لا بد من قتله واستباحة دمه وعرضه، ممثلاً فى صليب رسمه بالدم على مقدمة رأسه باستخدام السلاح الأبيض الذى ذبحه به.. أو بتفسير نفسى آخر.. فإن مريض «فصام البارانويا» يبدأ تكفير الآخر عنده بتجريده من الإنسانية ووصمه بصفات شيطانية فهذا الكاهن مثلاً هو شرير.. وجدير بالقتل.. حيث تحدث عمليات إحلال وتبديل وتبادل أدوار داخل عقل المعتدى بين الضحية والجلاد.. حيث تحول الضحية إلى جلاد.. والجلاد إلى ضحية.. ويكون العدو هنا أشبه بكبش فداء يمكن أن تحل من خلاله مشكلة المعتدى.. حيث يعتقد القاتل الإرهابى أن مشكلاته الاجتماعية والنفسية يمكنه التحكم فيها وحلها لو تمت إزالة المسئول عنها -من وجهة نظره- وإبادته ومحوه عن الوجود (وهو الكاهن فى هذه الحالة).
ولذلك فإنه عند حديثنا عن جذور الإرهاب التاريخية فإننا لا نفصل ذلك عن الحديث عن بزوغ المرض النفسى والعقلى.. وهو ما عبر عنه «نجيب محفوظ» للناقد الكبير «رجاء النقاش» فى كتابه عنه فيما يتصل بشخصية «سيد قطب» الذى دخل التاريخ باعتباره الرائد الأول والمؤسس لأفكار الجاهلية فى «مصر»، فيؤكد أنه عقب زيارة له قبل إعدامه.. لمس تدهوره النفسى والعقلى الذى حدده فى الشك المرضى.. وعدم ثقته فى أحد.. ووساوسه القهرية الواضحة.. وعن التكوين النفسى لشخصية «سيد قطب» يرى الأستاذ «حلمى النمنم» فى كتابه عنه أنه كان يمكن لمن سمع مثله -وهو فى السجن- بعد القبض عليه فى الستينات التعذيب الوحشى أو رآه وعاناه أن يتحول إلى إنسان يطالب بالحرية والديمقراطية للجميع.. وأن يطالب بإنهاء عهد الزنازين.. والتعذيب والقهر والاعتقال.. لكنه بدلاً من ذلك طالب بأن تتسع الزنزانة وتشمل الجميع ويكون هو وحده السجان والحاكم والآمر الناهى.. فقد أصدر فكرته بجاهلية المجتمع كله.. وكفر الجميع.. ومن ثم فهم يستحقون الهداية.. وإعادة التكوين والبناء.. وهى نفس العقلية.. ونفس المنطق الذى يقسم الناس إلى وطنيين وخونة، أو ثوريين ورجعيين، أو حزب الله.. وحزب الشيطان.. مسلمين وكفار.. مؤمنين وجاهلين.
إنه «فصام البارانويا» اللعين واضحاً جلياً فى أعراضه ونتائجه.. أى إن «سيد قطب» دخل التاريخ بأفكار الحاكمية ووضع لها نظرية وكان خطرها الداهم أنه جعلها منهاجاً للانتقام من المجتمع كله.. دخل التاريخ من باب «فصام البارانويا اللعين».