بدأت يومها كباقي اﻷيام السادسة صباحا، ودعت أبنائها عند حافلة المدرسة، بعد أن أعدت لهم وجبة إفطار مكتملة العناصر الغذائيه، نفضت الغبار عن زجاج سيارتها وسلكت طريقها نحو العمل، جاهدت نفسها حتي تتحضر لمواجهة العالم حاولت أن تبدو بوجه عابس ومتجهم، ولكن طقس اليوم وقف حائلا دون ذلك التجهم، إنه منتصف نوفمبر، حيث تبدأ الشمس في لملمة أشعتها لتعطي نسمات الهواء الباردة كي تتسلل إلي العالم، وتنتشر هنا وهناك، فتدغدغ القلوب وتقلب الذكريات اللطيفة في العقول، خاصة لدي بسمه طبيبة الأسنان الشابة، ففي مثل هذا الوقت تعرفت بحبيبها وفي مثل هذا الوقت تزوجته وفي مثل هذا الوقت أنجبت توأمها الوحيد، فتحت زجاج السيارة علي مصراعيه حتي تسمح للهواء أن يتخلل خصلات شعرها فتتناثر في الهواء آخذا معه عقلها في شرود بعيد، استعادت خلالها ذكريات جميلة.
تعد بمثابة مخزونها الوحيد من السعادة، أطلقت عنوة عنها ضحكات كاد صوتها يسمع خارج السيارة، قاطع شرودها دقات ساعة الجامعة حين وصلت مقر عملها، نظرت في المرآه التي أمامها، لملمت شعرها المتطاير وعادت كما عهدها الطلبة والمدرسون والعاملون امرأه بملامح حديدية، هكذا أطلقوا عليها المرأة الحديدية، لم تعرف يوما الاستثناءات، ولا المجاملات، لم ترحم مقصر، ولم تحنو علي غافل بل أوقعت أشد العقوبات، لم تسمح لظروفها القاسية أن تقف عقبة أمام نجاحها، وقد أذهلت الجميع حين استأنفت عملها بعد ثلاثة أيام من وفاة زوجها، الذي عرف الجميع قصة حبهما وصدمتها بوفاته، أخذت علي عاتقها تربية أبنائها دون أن تسمح لأحد أن يشفق عليها أو يحنو عليهم، لهذا يهابها الجميع ويوقرونها أيضا.
أتمت بسمة يومها الجامعي علي أكمل وجه وأكملت عملها بالعيادة الخاصة حتي أوشكت الساعة علي العاشرة مساء، عادت إلي منزلها قابلت أبنيها، أخذت منهم تقرير عن يومهم بعد أن تناولوا معا وجبة العشاء ثم ذهبت لسريرها تقاوم ككل ليلة ألم يعتصر صدرها ويفقدها توازنها حتي تدفن وجهها بالوسادة كي تمتص دموعها ولا يشعر بها أحد، "أريد أمي" ذلك الزلزال المدمر الذي اجتاحها منذ أن فارقت والدتها الحياة، أخذت تتحدث معها كما تفعل دائما، أمي أحتاجك دائما، لم أقهر بموت زوجي، لم أكسر بيتيم أولادي، قاومت شراسة المجتمع مع امرأة وحيدة، حاربت كل مخاوفي، سكنت كل آلامي إلا وجع خسارتك يا أمي، لم أحتمله يوما، ولن يستطع ألف عام أن ينسيني وجعي، فقط تصبرني آيات علمتيني إياها: "وأن إلي ربك المنتهي، وأنه هو أضحك وأبكي، وأنه هو أمات وأحيا".. أطبقت عيناها، التي نزلت منها الدموع، حتي ذهبت في نوم عميق.