جلسنا أمام الشاشات ننتظر افتتاح منتدى شباب العالم بشغف شديد، ونتمنى خروج هذا الحفل الدولى على المستوى الذى نأمله. وكان افتتاحاً مبهراً فى التنظيم والانضباط والمحتوى، وحتى فى الإخراج المسرحى.. وتوالت كلمات الشباب، وتحدّث الشاب اليمنى «سهيل»، وبدأ الكلمة بأنه قادم من اليمن السعيد. لحظات وقال: «من اليمن الذى كان سعيداً.. بل آتى إليكم من اليمن التعيس». وعدّد ما يمر به اليمن من ويلات الحروب والإرهاب لمدة تزيد على العامين تشرّد فيها خمسة ملايين من الأطفال تهدمت مدارسهم وربما منازلهم، وأُغلقت 70٪ من المدارس، وأضرب المعلمون عن العمل بعد انقطاع رواتبهم لمدة عام كامل. وعقّب الشاب الحزين بأن اليمن أصبح على حافة الهاوية. تتابعت مع كلماته صور محزنة عن اليمن وما حلّ به من دمار وهلاك وتشريد لشعب اليمن التعيس، وتوالت صور أطفال اليمن قابعين وسط الركام والخراب.
ثم جاء الفيلم الوثائقى «عنوان المراسلات» يحكى قصصاً عن شباب لاجئين سوريين وعراقيين وكيف عانوا الأهوال للهروب من بلادهم التى تحولت إلى جحيم، وكيف فروا من الإرهاب والحروب ليعانوا صعوبة العيش فى بلاد غريبة وليظلوا فاقدين للاتصال بذويهم يبحثون عن عنوان لمراسلتهم فلا يجدون. يقول الشاب السورى إنه لا يحمل صوراً لأفراد عائلته، وكل ما لديه من ملامح لهم هو ما ترسّب فى الذاكرة، وكل ما يعرفه عنهم وعن الأحياء منهم من خلال التليفون ولا يعرف متى يعود الوطن وطناً.. ومتى يعود هو إلى أهله أو يراهم فى يوم من الأيام. ولم يقف الفيلم الوثائقى عند الهاربين والنازحين من أوطانهم العربية فقط، بل تطرّق إلى الأفارقة الهاربين من القتل والإبادة، وتحدثوا وهم يقطرون مرارة وألماً عن بلادهم التى تهدمت فوق رؤوسهم وسيطر عليها الإرهابيون، وكيف لاذوا بالفرار إلى العراء والمجهول.. ثم اختتمت هذه السلسلة الحزينة الشابة الأيزيدية العراقية «لمياء حجى» وقصت قصتها مع الدواعش، وهى القصة التى لن نراها فى أعتى أفلام الرعب المريضة، ولا حتى فى عالم الحيوان الذى يبدو أنه ملىء برحمة الطبيعة عن مجتمع هؤلاء الدواعش الهمج الشواذ. هذه الشابة الصغيرة التى اختطفها الدواعش واعتبروها من السبايا والعبيد تباع وتُشترى فى الأسواق مثل البهائم، وظلت عشرين شهراً بين أيديهم، بيعت خمس مرات فى الموصل، ثم فى سوريا، تعرضت خلالها لكل أنواع العنف والانتهاك، وحاولت الهروب خمس مرات، وكل مرة يتم فيها القبض عليها كانت تتعرض للتعذيب والعقاب. أُجبرت على العمل معهم فى تحضير الأسلحة وصناعة الأحزمة الناسفة، وخلال محاولتها الأخيرة للهرب انفجرت عبوة ناسفة فى السيارة التى كانت تستقلها هى وثلاث فتيات قُتلن جميعاً وأصيبت هى بجروح خطيرة فى جسدها ووجهها الذى تشوه، وبعد أن تم إنقاذها قررت أن تطوف العالم لتحكى قصتها وقصة 3500 فتاة وطفلة أيزيدية ما زلن بين أيدى الدواعش.
دمعت عيوننا وعيون آلاف الشباب الموجودين بالمؤتمر، ودمعت عين الرئيس، وتبدلت ملامح وجهه بكل إشارات الألم والحزن والغضب، وعندما وقف أمام الشباب ليتكلم أضاف حقاً جديداً من حقوق الإنسان وهو حق الشعوب فى محاربة الإرهاب.
فوراً تذكرت «كونداليزا رايس» التى جاءت إلى مصر منذ اثنى عشر عاماً لتبشرنا بقدوم الربيع العربى الذى أصبح «الترويع العربى»، وبشرتنا بالشرق الأوسط الجديد، وها هو يتحول إلى بقايا أوطان، وهنأتنا بقرب هبوب الفوضى الخلاقة. ولم ندقق أيامها فى هذه العبارة، ولم نسأل أنفسنا: كيف تكون الفوضى خلاقة؟ ويكون الاستقرار هداماً؟ لم نتساءل وقتها إلى أن رأينا الهدم والخراب والقتل والذبح والحروب والإرهاب والموت والفقر والإفلاس وحافة الهاوية.
كنت أشاهد حفل افتتاح المنتدى الرائع وإذا بأصابع الدولة العظمى التى تحولت إلى البلطجى الأعظم تظهر بوضوح وتطل أفعالها من أولى الثورات سابقة التصنيع المصدّرة إلى كل دول المنطقة، إلى إشعال الحروب الطائفية والعرقية، إلى تحويل الإرهاب بالوكالة عن طريق قطر وتركيا والجماعات التكفيرية المرتزقة، إلى نهب ثروات المنطقة وهدم آثارها وفناء تراثها، إلى التقسيم المرعب الذى ضرب سوريا والعراق واليمن، وما زال يحاول فى ليبيا ويرسل لنا هنا موجات من القتل والخراب.. دولة عظمى تلعب وتلهو بمصير الشعوب، تمول الدواعش بالسلاح وتدعى محاربتهم وتلقبهم مرة بالمتمردين ومرة بالمعارضة المعتدلة وأخرى بالمعارضة المسلحة وتتركهم يسيطرون على مصادر النفط فى العراق وسوريا يبيعون منها بربع الثمن إلى حلفائها من الدول الأوروبية المتقدمة دعاة الحرية والديمقراطية. هذه الأصابع الإجرامية قتلت الملايين، وشردت الملايين، وهدمت دولاً ودمرت بنيتها التحتية وتكلفتها بالمليارات.. هذه الإدارة الكاذبة التى تدعو الدول المقاطعة لقطر للحوار والهدوء وهى فى المقابل تعقد معها صفقة طائرات حربية بالمليارات وتتغاضى عن دعم قطر للإرهاب بالأموال والسلاح والإعلام. هذه الإدارة التى تلطخت أيديها بدماء العرب تنظر لنا من أعلى نظرة عنصرية فاجرة، وتعاقبنا نحن بالذات لأننا حافظنا على بلادنا من الخراب الأمريكى بحجة انتهاك حقوق الإنسان، وتعاقبنا بمنع المعونة لأننا نقوّى جيشنا حتى لا نقع فى الخراب مثل باقى الدول المحيطة بنا. بينما كنت أسمع الشاب اليمنى وهو يقول اليمن على حافة الهاوية تذكرت جائزة نوبل التى أُعطيت للناشطة السياسية «توكل كرمان» مكافأة لها على مشاركتها فى خراب وطنها وتقسيمه إلى فتات وتشريد أهله وأطفاله.. وهكذا الإدارة الأمريكية؛ يد تعطى الجوائز، ويد تغذى الإرهاب بالسلاح، وإعلام يسيطر على شعبه بالأكاذيب.