بدأت تتضح ملامح الخطة الاستراتيجية التى وضعتها المملكة العربية السعودية تدريجياً وفقاً للإجراءات الاحترازية التى ظهرت تجلياتها فى خلفية المشهد بدءاً من اعتقال أمراء مرموقين ورجال أعمال أثرياء مؤثرين ورجال دين وسياسيين كبار فى المملكة، ثم الخروج إلى الدول المحيطة والمجاورة لفرض سياسة يبدو أنها ستكون نهجاً فى التعامل مع دول المنطقة، تنطوى على الكثير من الحزم والحسم فيما يتعلق بوقف توسع التأثير الإيرانى، الذى بدأ يُظهر فكرة الهلال الشيعى وتمدده فى دول عربية محورية مؤثرة، فقد نجحت طهران فى تثبيت أقدام لها فى المنطقة، فهى تزود الحوثيين بالسلاح من جنوبها، وتسيطر على شمال العراق، وتحرض على عدم الاستقرار فى البحرين، فضلاً عن حلفائها الموجودين فى المنطقة الشرقية السعودية، والآن ترسخ تأثير إيران فى دمشق وبيروت، ولهذا السبب تحديداً أجبر السعوديون حليفهم سعد الحريرى رئيس الوزراء اللبنانى على الاستقالة من منصبه خلال زيارته للمملكة.
ما زالت أصداء استقالة الحريرى تهيمن على المشهد السياسى العربى والدولى، وغموض الاستقالة وتوقيتها صعد من لهجة التوتر والوعيد ما بين حزب الله والرياض، والمثير أن إسرائيل تلتزم الصمت! غير أن الصحافة الإسرائيلية اهتمت بالاستقالة على نحو خاص وربطت بينها وبين نهج واستراتيجية محمد بن سلمان ولى العهد السعودى، وماذا سيجنى بن سلمان من استقالة رئيس الوزراء اللبنانى سعد الحريرى؟ من الواضح أن الحريرى لم يكن يخطط للاستقالة، فمن كان جدول أعماله السياسى مزدحماً باللقاءات قبيل رحلته الأخيرة إلى الرياض لا يمكن أن تكون لديه النية للاستقالة والفرار من لبنان، خاصة وقد كان لديه اجتماعات مع ممثلى صندوق النقد الدولى والبنك الدولى ومسئولين ووزراء تتعلق بالاقتصاد والمياه فى حكومته، وبشكل مفاجئ يجلس أمام كاميرات التليفزيون السعودى ويدلى بخطاب الاستقالة، وبحسب تحليل أجهزة الاستخبارات العالمية فإن خطاب الحريرى يأتى فى إطار فشل السعودية فى الإطاحة بالأسد بعد انهيار داعش والحرب الجارية فى اليمن التى كلفت الرياض ملايين الدولارات دون أن تحسم لصالحها، وهى أمور تشكل عائقاً رئيسياً أمام مخططات ولى العهد بن سلمان، فالهدف الرئيسى على أجندته السياسية المقبلة قطع الطريق على الزحف الإيرانى من خلال سوريا والعراق للتغلغل فى لبنان، وهو يرى بوضوح انتزاع لبنان من النفوذ السعودى.
إن ظهور الحريرى فى مقابلة على «قناة المستقبل» التى يمتلكها بعد أسبوع من تقديم الاستقالة مضطرباً يعزز من فرضية إجباره على الاستقالة، فقبل ادعائه بمحاولة الاغتيال لم يشتك من حزب الله ونفوذ إيران فى لبنان، بل أشاد بالشراكة مع حزب الله فى الحكومة اللبنانية، بما يؤكد أن دوافعها غير مقنعة بل جاءت لإرضاء الحليف الاستراتيجى الأمريكى ضد إيران وحلفائها، وتعزيز الحوار بين السعودية وأمريكا وإسرائيل، لذا صمت نتنياهو ولم يعلق على الاستقالة وحرص على عدم انتقاد الرياض مكتفياً بالمراقبة، وفور ظهور الحريرى فى الحوار التليفزيونى انطلقت تحليلات لغة الجسد وعلم النفس لترى إذا ما كان الحريرى فى الرياض بمحض إرادته أم أن الحديث يجرى عن احتجازه وتصويب مسدس سعودى إلى رأسه، وخلصت إلى أن الحريرى يتعرض لأزمة واضحة وفرض عليه الأمر من خلال لمسه لأنفه ولعق شفتيه وجفاف حنجرته، فهذه الإشارات تدل على أنه يتعرض لضغوطات صعبة وكذب تام وكأن مسدساً موجهاً إلى رأسه بسبب الجهد فى عرضه لحزب الله وكأنه يهدد حياته، فى حين أنه يتعرض للخطر الحقيقى من قبل أمراء الرياض، قال الإخصائى النفسى الأردنى باسل محمد، عبر منشور على أحد مواقع التواصل الاجتماعى: «من الواضح أن الحريرى يشعر بحالة تهديد شديد عبر عنها أكثر من مرة خصوصاً عند استحضار مقتل أبيه وما ترك فيه ذلك من آثار نفسية، كما كان واضحاً أنه دخل فى حالة اكتئاب شديد ونوبات بكاء متتالية قبل المقابلة وهذا واضح تماماً من نبرة الصوت، وتكرار شرب الماء معناه الخوف من الموت والشعور بالتهديد الدائم، الحريرى يدرك بشكل كبير الخسارة المذلة التى تعرض لها ويدرك حالة الضغط التى وصل إليها، فهو يستجدى الرضا ويقوم فى مرات عديدة بمحاولة استعادة الموقف لتغلب عليه لاحقاً حالة الفقد والشعور بالهزيمة، فقد عبر عن مشاعر إنسانية صادقة ليقدم نفسه كإنسان عادى يستحق الشفقة وليس كرئيس دولة أو قائد وفى ذلك وضوح شديد لانتهاء الدور»!.
إن قرار السعودية بالهيمنة على القرار العربى فيما يخص محاربة الهلال الشيعى طال أيضاً رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس، فاللقاء الذى جمع أبومازن فى الرياض بالملك سلمان وولى العهد حمل أيضاً تهديدات فى حال عدم إتمام المصالحة مع ضرورة إبعاد حركة حماس عن محور إيران وإلا ستلقى مصير حزب الله! بالإشارة إلى صور القيادى فى حماس صالح العارورى فى طهران بعد اتفاق المصالحة وجعلتها جزءاً من السلطة، كما ناقشوا معه تعاون قوات فتح فى لبنان المنتمية لمنظمة التحرير مع حزب الله، وازداد توتر اللقاءات بين أبومازن والمسئولين السعوديين عندما طلب منهم الإفراج عن رئيس الوزراء اللبنانى المستقيل وعدم تقييد حريته حتى لا تقع لبنان فريسة للحرب الأهلية من جديد، فضلاً عن الطريقة التى تم بها استدعاء أبومازن للسعودية ووضعت عليها علامات استفهام، خاصة أنها جاءت بالتزامن مع استقالة الحريرى، فما تم طرحه كان خطيراً، حيث وضع السعوديون لأبومازن صورة مستقبل المنطقة وما ستؤول إليه القضية الفلسطينية، وكذلك الصراع مع إيران وموقف الرياض من حماس فى ضوء التقارب بينها وبين المحور الذى تقوده إيران ودعمها إخضاع كل الأسلحة فى القطاع والضفة للسلطة، وهى نقطة خلافية محورية مع حماس التى تعتبر سلاح المقاومة خطاً أحمر، فضلاً عن دعمها لسيطرة السلطة على المعابر من قبل السلطة بدلاً من حماس، كل هذا وضع الرئيس أبومازن فى موقف لا يحسد عليه، لأنه يحاول تجنيد دعم عربى لموقفه ومساعدة اقتصادية سخية تسمح لحكومته بأداء مهامها فى غزة لتحسين أوضاعها الإنسانية، فتنسيق المواقف مع السعودية بالنسبة له مهم جداً، لأن ذلك يعنى التنسيق مع غالبية دول الخليج التى يمكنها توفير شبكة أمان اقتصادى للسلطة.
صنع ولى العهد محمد بن سلمان لتثبيت سلطته مجموعة من أقوى الخصوم قبل أن يغادر والده، لكنه يمتلك دعمه الذى وفر له حرية اتخاذ القرارات سواء فى الداخل أو الخارج، فى ضوء علاقته الوثيقة بالرئيس الأمريكى وصهره جاريد كوشنر، لذا ينبغى ألا نتفاجأ من أن يكون ترامب مؤيداً للتطورات الجارية فى الرياض كبداية لعهد جديد ينفتح أكثر على أمريكا وإسرائيل وما يحقق مصالحهما فى المنطقة.