لم تنقطع المفارقات منذ أكثر من خمسة وعشرين قرناً أو منذ القرن الخامس قبل الميلاد، وهو القرن الذى كتب فيه «هيرودوت» ليقول عن هذا البلد إنه بلد «المفارقات» أو «بلد المفارقات والأعاجيب».. والمفارقات أنواع تختلف باختلاف العصر وظروفه السياسية والاجتماعية والاقتصادية، وباختلاف درجة علم وثقافة أو جهل وتخلف قائليها أو مروجيها أو الذين يعيشون فى كنفها.
على أن أكثر المفارقات ذيوعاً وتأثيراً هى ما يمكن أن نسميه «المفارقة السوداء» أسوة بـ«الكوميديا السوداء».. تلك التى تختلط فيها التراجيديا بالكوميديا، أو الميلودراما بالأضاحيك، أو السخرية المرة التى تبعث على البكاء وتستدعى الأسى المصحوب بالتأمل الباعث على التحليل وإعمال العقل.
وقد وضع أديبنا الكبير «عباس العقاد» يده على مفارقة فى مقال اختار له عنوان «ما هذا العبط يا أستاذ؟» ونُشر فى الأخبار فى (23/5/1962)، وصاحب المفارقة فى هذه الدعوة هو الدكتور «رشاد رشدى» الذى كان أستاذاً للأدب الإنجليزى بكلية الآداب جامعة القاهرة وقتها ثم رئيساً لأكاديمية الفنون، كما أنه مؤلف مسرحى عُرضت له عدة مسرحيات فى الستينات.
وضم المقال إلى مجموعة كبيرة من المقالات ضمن الجزء الرابع والأخير من «اليوميات».. والمفارقة موضوع المقال يسميها مفارقة الأدب بغير تعليم. وتتصل بقول القائلين بالتجديد والاستعداد للأدب بغير عُدة غير بركة العجز.. وموضوع المفارقة فى هذه الدعوة أنها تصدر عن أناس ينتسبون إلى الجامعة ويلقون الدروس على طلابها.. إنهم يعلمونهم أن الكتابة لا تحتاج إلى لغة وأن الشعر لا يحتاج إلى وزن وأن القاعدة الذهبية فى الدراسات الأدبية هى إهمال كل قاعدة ذهبية.. بل كل قاعدة فضية أو نحاسية أو قصديرية أو طينية إذا وصل الأمر إلى الطين.. وقد وصل إلى ما دون الطين بحمد الله رب العالمين، وذلك حسب تعبير «عباس العقاد»..
وتتلخص الدعوة فى الاتجاه نحو إهمال الكتابة الفصيحة فى القصة والرواية والمسرحية والشعر.. واستبدالها باللهجة العامية التى هى لهجة الكلام الطبيعية.. فمن الواجب أن تكون هى لغة الفن، ولغة المسرح، ولغة البيان.. وبالتالى يصبح لا حاجة لقواعد اللغة العربية والنحو والصرف والبلاغة من بيان وبديع والقافية والعروض طالما أمامنا الشعر الذى بلا قافية.. وما لنا بالدراسة الثقافية.. أليس لدينا (الحدوتة) نسميها قصة فنية أو نسميها ما نسميها من أسماء، أطلق عليها «العقاد» اسم «الفنون الخنفشارية»!!
ويستنكر العقاد تلك الجرأة فى التصريح بهذه الدعوة لأنه من المألوف فى كل دعوة جامعية أن تتحلى بشىء من وقار الحذلقة يخيف السامع من بعيد.. ثم يرفع عنه الخوف قليلاً كلما اقترب من بيت القصيد.. لكن «رشاد رشدى» لم يعتصم فى دعواه بشىء غير بركة (العبط) فى رفع الكلفة.. والاستغناء عن التلميح.
وفى دفاع «العقاد» عن الفصحى دحض لدعوة «رشاد رشدى» يسعى إلى تأكيد بديهية الفرق بين الفن والواقع.. وهو فارق كبير لا يفهمه أدعياء الفن وضعاف الموهبة، وأنصاف المثقفين، والمتسلقون إلى رحاب الفنون فى وقاحة واقتحام جاهل.. ونراه مجسداً تجسيداً مخلاً ومريباً وفاضحاً فى السينما المعاصرة والمسرح التجارى وفنون الرواية والقصة، بل أكثر انتشاراً فى فن كتابة المقال حتى أصبح للعامية الركيكة ذيوع وانتشار يشى بفجاجة وإسفاف لغوى مقيت.
يقول «العقاد» إن الفن بغير (عبط) ليس هو نقل الطبيعة كما تنقلها الآلة.. متى كانت الصورة الشمسية هى المثل الأعلى للتصوير أو النحت فى فنونكم التى تسمونها بالتشكيلية؟!.. إن الفن هو التعبير عن الطبيعة وليس هو نقل الطبيعة فلو لم يكن للفنان عمل فى التعبير عن شكله لما استحق أن يوجد ولا أن يوجد معه فنه.. لأن الطبيعة تغنينا عنه وعن صورته فى كل مخلوق نراه.. وأنت تلغو باسم «شكسبير» وأسلاف «شكسبير» من الزمن الأول إلى الزمن الأخير.. فإذا كان فى روايته ألف متكلم ومتكلمة فمن منهم كان ينطق بتلك الألفاظ التى وضعها «شكسبير» على لسانه؟!.. بل كم من هؤلاء الألف كان يعرف من اللغة الإنجليزية كلمة واحدة يفهمها «شكسبير»؟!.. كليوباترا المصرية؟!... جولييت الإيطالية؟!.. هاملت الدنماركى؟!.. «يوليوس قيصر» اللاتينى؟!.. عفاريت الغاب؟!.. خلائق الجن وأشباح الهاوية؟!
ليس من هؤلاء مخلوق واحد نطق بكلمة إنجليزية فى حياته.. ولكنهم نطقوا بها فى روايات «شكسبير» ونطقوا بكلماتنا اللغة الفصحى بما نقلناه من تلك الروايات.. ولو رددناها إلى الأصل الذى يخيل إليك أنه كانت أليَق بهم لنقصت فناً وأدباً وشعراً ومسرحاً.. ولم تزد شيئاً يحرص عليه القارئ أو المستمع أو الناقد أو الملحقون بالمسرح من أسفله إلى أعلاه..
الفن، إذاً، ليس ترجمة مباشرة أو محاكاة فوتوغرافية أو نقلاً حرفياً للواقع لكنه يُعنى بإعادة بناء الواقع بأدواته الخاصة لخلق واقع جديد لا ينفصل عن الأصل.. لكنه يصوغه صياغة مبتكرة وفقاً لأسلوب الفنان وتعبيراً عن رؤيته ووجهة نظره لهذا الواقع، مستخدماً وسائله الفنية فى الخلق والتعبير واستخلاص الجوهر والمعنى الباطنى؛ فالخطاب الفنى يخضع للخطاب الجمالى ولفلسفة الجمال التى تخلص الواقع من شوائبه وترهله وعدم اتساقه فى «هارمونى» وانسجام.. وقدرة على ضبط إيقاعه وتناغم أشكاله وتعدد أبعاده ومستوياته المختلفة.
لذلك فإن الدعوة التى تجد لها صدى واسعاً هذه الأيام أن وظيفة الفن، خاصة السينما باعتبارها فناً جماهيرياً يخاطب كل المستويات الاجتماعية والطبقية والاقتصادية، هى نقل لغة الشارع إلى الشاشة كما هى بألفاظها القبيحة وتعبيراتها المسفة وانحطاط وتدنى خطابها اللغوى، هى دعوة عاجزة عن فهم معنى الفن الحقيقى.. بل هى دعوة لانهيار الفنون.
أو كما يقول العقاد «إن هذا معناه أن نعود للأديب لنقول له أيها الأديب لا تتعلم ولا تتفهم ولا تبالى كيف تكتب لأنك ستكتب على كل حال كما سيتكلم الناس على كل حال -وبهذا يستوى الأديب أو الفنان مع العامة لا فرق بينهما- وبهذه الرخصة المباحة لكل مستبيح يصح أن يقول العلامة الجامعى (يقصد رشاد رشدى) إن قواعد اللغة «فضول» وإن قواعد الشعر «لغو مرذول» وإن الأدب كلام وأى كلام؟! وإن الأدباء أعلام وأى أعلام؟! ونضيف أن المسرح ابتذال وأى ابتذال.. والسينما «همبكة» من أول «ألو يا همبكة» إلى «انسى وخد البنسة» و«أديك فى الحُق سجُق».