أثناء إعداد ذلك الدستور الطائفى أيام حكم الإخوان، وهو بالطبع وُضع لخدمة مصالح وتوجهات وأفكار وطموحات ومستقبل نظامهم ولأجيال مقبلة، فقد اقترح وقتها مادة مستحدثة هى وجوب التوقير والاحترام وخطر ازدراء الرموز الوطنية. وكان لنا أن نتساءل وقتها «مَن هؤلاء الرموز من وجهة نظرهم؟!».
إذا كان المقصود هم الزعماء، مثلاً، فتاريخ المتأسلمين يؤكد أنهم هم الذين يزدرون حكامهم.. فهناك عداء وتآمر قديم بينهم وبين «عبدالناصر» وعهده.. والجيل القديم من الإخوان يعتبرونه شيطاناً رجيماً ويكفّرونه ويرون أنه علمانى ملحد.. إنها خصومة تاريخية منذ عام (1954).. فهم لا ينسون تعذيبه لهم فى المعتقلات.
أما ازدراء «السادات» ووصفه بالطاغوت فقد ترجم بقتله وسط جيشه تمهيداً للتبشير بنظام جديد مستمد من كتب «ابن تيميه» و«المودودى» لإقامة دولة الخلافة الإسلامية باستخدام العنف والتكفير.
أما ازدراء «حسنى مبارك» فقد تمت محاولة اغتياله فى «أديس أبابا» (1995) وقبله وبعده الشروع فى قتل رموز النظام (عاطف صدقى، صفوت الشريف، حسن أبوباشا، النبوى إسماعيل، زكى بدر، حسن الألفى، عبدالحليم موسى ومحاولة اغتياله التى أصابت «رفعت المحجوب» رئيس مجلس الشعب).
أما إذا كان المقصود بالرموز الذين يجب احترامهم وعدم ازدرائهم هم أهل الفكر فحدث ولا حرج عن المفكر الإسلامى المستنير «د.نصر حامد أبوزيد» الذى حاربه شيوخ السلفية وأدعياء الدعوة الإسلامية، وكفروه وطاردوه بدعاوى للتفريق بينه وبين زوجته وخرج عنوة من «مصر».. وحينما مات فى الغربة كتب عنه أحد السلفيين: بهذه المناسبة السعيدة أبارك لأهل السنة والجماعة بهلاك أحد كهنة الليبرالية المنافق «نصر أبوزيد» جعل الله قبره ناراً تلظى إلى يوم القيامة.
أما ازدراء «د.فرج فودة» الذى انتهى إلى اغتياله (1992) فليس قمعاً لحرية الفكر -كما ورد فى منشور الجماعة الإسلامية- ولكن وفقاً لحرية الكفر، ولتطاوله واستهزائه بدعائم الدين الحنيف، ولحربه الضروس لمنع قيام دولة إسلامية، فقد أكد المنشور: «قتلناه وسنقتل من يحارب المسلمين سواء بالسوط أو الرصاص.. ولن تتوقف مسيرة حربنا لأعداء الإسلام حتى يطلق سراح الدعاة إلى الله المودعين فى السجون».. وأحد هؤلاء القتلة أفرج عنه فى ذلك العهد السعيد وأصبح نجماً من نجوم ضيوف الفضائيات يحاوره الإعلاميون فيزهو بجريمته.. ويفخر بإجرامه.. ويفخر إجرامه به.
أما د.طه حسين، الذى يعتبر من أهم رموز الفكر والتنوير فى مصرنا الحديثة فقد انتزع رأس تمثاله من قاعدته فى ميدان بكورنيش «المنيا» مسقط رأسه رغبة فى الانتقام منه وتكفيره للمرة الثانية بعد مرور أكثر من ثمانين عاماً على محاكمته بسبب كتاب «فى الشعر الجاهلى» الذى أصدره عام (1926) ناهيك عن العودة إلى تكفير «نجيب محفوظ» بعد محاولة اغتياله على يد «سماك» حيث إن المستشار الإعلامى لهيئة الوصاية على الأخلاق الحميدة والسجايا العطرة وسفير المحرضين على إطفاء شموع الحضارة وإظلام مشاعل التنوير «عبدالمنعم الشحات» قام بتكفير أديب نوبل العظيم بصفته محرضاً على الفجور والرذيلة ومناهضاً لأحكام الدين ونواهى العقيدة خاصة فى روايته الشهيرة «أولاد حارتنا» وقد اشترك معه «ياسر برهامى» فى تقييم أدب «نجيب محفوظ» ووصفه بالانحلال والانحطاط والمساهمة فى هدم هوية الأمة والطعن الصريح فى الدين والعقيدة..
أما إذا كان نجوم الفن هم الرموز الذين يجب توقيرهم فإن صيحة ازدراء الدين المخيفة التى انطلقت فى هذا المناخ المسموم حوكم بموجبها «عادل إمام» مرتين.. المرة الأولى فى الدعوى التى رفعها ضده محامٍ سلفى وتم فيها الحكم بحبسه ثم كانت المفاجأة العاصفة فى تأييد الحكم فى الاستئناف.. المرة الثانية حينما عاود المحامى نفسه رفع دعوى أخرى ضد «عادل إمام» وضد مخرجين ومؤلفين لأفلامه السينمائية اتهمهم فيها بالإساءة إلى الإسلام وقضت محكمة الجنح بعدم قبول الدعوى.. وأكد الحكم فى حيثياته أن حرية الرأى والتعبير من أهم مقومات النظم الديمقراطية.. وأن الانتقاص منها هو انتقاص من الحكم الديمقراطى السليم.. وأن توجيه الانتقادات لأى تيار فكرى غير مجرم.. إنما هناك بعض المتشددين يصرون على تنصيب أنفسهم أوصياء وحراساً ومدافعين عن العقيدة ضد الأخطار..
ثم إن العقيدة فى نفوس المصريين كشعب متدين أقوى من أن يهددها عمل فنى.. لكن ضعف موقف المزدرين المستند إلى الظلام والجهل هو الذى صور لهم ذلك.. كما أنه يجب التفرقة بين الدين والفكر الدينى من جهة وبين المقدس وما هو غير مقدس من جهة أخرى..
فمن يهين من ومن يزدرى من إذاً؟!
فقهاء التكفير والتحريم والمصادرة باسم الدين يهينون ويزدرون الرموز الوطنية من السياسيين والرؤساء.. وقادة الفكر والفن والإبداع أم العكس؟!
وتدور الأيام دورتها وتجرى فى النهر مياه كثيرة وينتفض الشعب فى ثورة عاتية لاقتلاع جذور الإرهاب الدينى الممثل فى حكم الإخوان وينجح السيسى ومعه ملايين المصريين فى استرداد الوطن من براثن الظلاميين.. فإذا بالمناخ السلفى يفرض نفسه من جديد.. ويطل بوجهه ليعاود استعادة وجوده حيث أحال د.على عبدالعال، رئيس مجلس النواب، مشروع قانون مقدماً من الدكتور عمر حمروش، أمين سر لجنة الشئون الدينية والأوقاف و(59) نائباً آخرين لتحريم إهانة الرموز والشخصيات التاريخية إلى لجنة مشتركة من لجنتى الشئون الدستورية والتشريعية والإعلام والثقافة والآثار وذلك لمناقشة وإصدار القانون، أى إعادة القانون المقترح أيام حكم الإخوان إلى الحياة مرة أخرى.
إنهم يريدون العودة بنا إلى إشاعة ثقافة التحريم والمصادرة واعتبار المسلمات الراسخة منذ العصور الوسطى لا تقبل المناقشة أو المراجعة مع أن القاعدة الفقهية تقول إن الأصل فى الأشياء الإباحة.. يريدون العودة بنا إلى التشدد واعتقال العقل الباحث عن الحرية والحقيقة والاستنارة.. إلى عودة تصاعد التكفيريين الذين وصفوا الحضارة الفرعونية بالعفن، واعتبروا الآلات الموسيقية غير جائزة شرعاً.. وأن الموسيقى حرام.. والمحاولات المتكررة لإلغاء الحفلات الموسيقية الغنائية.. وبروفات العروض المسرحية وتغطية صدور النساء فى لوحات «محمود سعيد» و«عبدالهادى الجزار» وهدم التماثيل وإحراق الكتب.. لأنهم يجزعون جزعاً دفيناً من الثقافة والمثقفين.. من الأوراق التى تفضح التشدد والاستبداد والتخلف والجمود.. وصفحات التاريخ التى تنتصر للتنوير والحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان.. وتمهد الطريق للنهضة والتنمية.. والرقى والتقدم.. وتدافع عن حرية الإبداع والتفكير والاعتقاد.. وتقديس العقل وليس تقديس الأشخاص فلا يوجد من يتفق عليه البشر حتى الأنبياء.. لكن فرض المحاذير على العقل الباحث عن الاختلاف والبحث والتجريب وحظر البحث عن روعة الاكتشاف واستخدام العقل النقدى والتسليم بما هو سائد والجزع من التغيير، والإقصاء وفرض الوصاية على كل ما هو مغاير.. ومحاكمة الهاجس والحدس والتصور المخالف والرأى الآخر.. والرؤية المناقضة.. والفكرة المناهضة.. والحجة المعاكسة..
كل ذلك يعنى عودتنا إلى عصور محاكم التفتيش وثقافة الهكسوس وعهود الجاهلية بينما حركة التاريخ تنحاز للحداثة والتجديد والتطور.. ولا تنتصر للجهل والجمود والظلام والإرهاب.