قليلون هم الذين يطلقون العنان لمخزون صدورهم من تراكمات السنين وندوب الماضى الأليم وجروح تأبى أن تندمل. نادرون هم الذين عاشوا تجارب أطول من أعمارهم، كما يقول على الطنطاوى: «حياة الإنسان لا تقاس بطول السنين، بل بعرض الأحداث»، وعلى مائدتك يفرشون صفحات العمر، ويفتحون بوتقة على جراحهم، يتنفسون الصعداء ثمّ يعودون لأحزانهم؛ مخطئ من يظنّ أن الراحة بالبوح.
كيف تنجحُ سويعات قليلة باختزال أكثر من ستين عاماً، سويعاتٌ كشفت تفاصيل العيون الواهنة، ولغز التنهّد والرغبة الجامحة فى العزلة والابتعاد. إن ما يبدعه الكاتب فى ثنايا السطور، هو عصارة التجارب المؤلمة، وستار جميل يغطى بدناً لا يكاد يخلو موضع فيه من الندوب وآثار الزلازل والخطوب، ما تلك إلا ملامح الكاتب التى مرّت على محطات السنين واستقرّ بها المقام على طبقات من الحزن التراكمى المغلف برداء الصمت الوقور، فتبقى الذات مثقلة بالماضى، هائمة تضربُ بقاع الأرض بخطاها بحثاً عن الطريق، حتى تجد عنوانها فى صرخة الصمت، والاستكفاء والاستغناء المحصن بالرضا والحمد والشكر لرب العالمين.
جاءتنى صورة صديق صدوق من شواهد الزمن الجميل ونبل المعدن الأصيل، بعد أن أجرى عملية جراحية صغيرة، فقلت لنفسى إن لم تكن زيارة الصديق الآن، فمتى تسمح بها طواحين الحياة. وفى طريقى إليه، كنت أتساءل: ما السرّ فى تأجيل أشغالك وتجاوز أعبائك الثقيلة لتشد الرحال إلى أحد رواد العطاء، وفرسان النقاء والوفاء ممن لا يزالون مرابطين فى حصن الأمل.
نصف يومٍ فى معية صديقى الكاتب المبدع متنقلاً معه بين أماكن وذكريات، ستبقى شاهدة على «البوح» الأمين، سألته: لماذا هذا الحزن الدفين يهز سطورك بالأنين، رغم ما تخفيه فى سويدائك عن عالمك؟ تنّهد بعمق: يا صديقى أرسلت السماء أمطارها ومضيت برحلتى يتيماً منذ الصّغر، غادرنا أبى قبل العاشرة، ومنحتنى أمى قلادة الخليفة المتوج من بعده، وعلى يديها ولدت أكثر من مرة. حملتنى الرياح دون أن أدرى لأودية البشر، تجمّلت وتحمّلت وتألمت، وسلمنى الأمل إلى الصمت، وسؤالى الحائر يلحّ على: لماذا يبدع البشر فى الشرور والغرور، واغتصاب الحقوق. ويكمل صديقى المكلوم: وقد أعرضوا عن بضاعتى، قاطعته: دلنى عليها سيدى الجميل، باغتنى بالجواب: فى بيتنا تعلمت رباعية الستر والصبر والوفاء والعطاء، وعشت حياتى بقيم أبى وغرس أمى. لكن هيهات من الفكاك من مدارات بعض البشر المتضخمة ذواتهم، المتحجرة قلوبهم والمتكلّسة عقولهم، الذين لم يعودوا لكوكب الأرض منتمين، ولكن فى عوالم القنص والاقتناص وركوب الموجات هائمين.
أحاول أن أخرجه من عوالم التأمل العميق فى الماضى بآلامه، ليحكى قصته المرتقبة مع المستقبل بآماله، ليأتى الرد: يا صديقى، سأمضى فى رحلتى حتى منتهاها متجاوزاً وحل البشر، متصالحاً مع الذات، مقاوماً كل إغراءات الانشغال، ومتسلحاً براحة البال والنسيان والاعتزال بعد أن أنهيت كل بنود الطموح وبلغت الهدف الاستراتيجى الأخير، وأدركت أن تجاربنا تؤلمنا لكنها تعلمنا، وأن التسامح ليس انكساراً، وأن الصمت ليس هزيمة، بل غذاء للحكمة. يا صديقى، جرب ألا تحقد ولا تحسد ولا تيأس ولا تشمت ولا تكره. ولهذا، أنأى بنفسى عن دركاتٍ أجهدتنى لسنوات حتى أضحت ذاتى أثقل من حياتى.
يا صديقى منذ بدأت رحلة العودة، وأنا أقرأ كثيراً، وأتأمل كثيراً، وأصنع طقوساً ومناسبات فى حياتى كى أفوز بالإياب بعد طول الغياب من طريق التيه الوعرة، لأنجو من نيران اغتيال الطيبة ووأد الأحلام، ولهذا عدت، والعود ما أجمله..!