تجارب الحكم فى الدول الإسلامية تؤشر إلى أن صناع القرار لا يؤمنون بالسياسة قدر إيمانهم بالسيف. تجربة اليمن ومستجدات الأحداث فيها تشهد على ذلك. عندما قامت ثورة فبراير عام 2011 قاوم على عبدالله صالح التغيير، ولم يستوعب أن الزمن تغير، تعرض وقتها لمحاولة اغتيال نجا منها بصعوبة، وتكفلت المملكة العربية السعودية بعلاجه، وقد كانت تتوجس قلقاً من رياح التغيير فى اليمن، وازداد القلق مع صعود أدوار الحوثيين المدعومين من إيران عسكرياً وسياسياً. وعندما عاد على عبدالله صالح إلى اليمن بعد تأمينه وتحصينه باتفاق تم برعاية المملكة، إذا به ينقلب عليها، وينضم إلى الحوثيين (الشيعة)، ويضم قواته العسكرية إلى ميليشيات عبدالملك الحوثى، من أجل التخلص من عبدربه منصور هادى، الرئيس الجديد الذى خلف على عبدالله صالح.
السلاح هو اللغة الوحيدة المستخدمة فى التفاهم بين الفرقاء اليمنيين، وكذلك بين الأطراف الخارجية التى أرادت السيطرة على المشهد اليمنى. جمعت المملكة العربية السعودية عدداً من الدول وشكلت ما أطلق عليه «التحالف العربى»، وبدأت حرباً لم تزل تتواصل حلقاتها حتى اليوم ضد الانقلابيين الحوثيين، وعلى عبدالله صالح. ومن جهتها بادرت إيران إلى دعم شيعتها فى اليمن بالمال والسلاح والكوادر. قبل أربعة أيام، فوجئنا بعلى عبدالله صالح ينقلب على الحوثيين، وينضم إلى ركب التحالف العربى، فيما أطلقت عليه المملكة العربية السعودية «الثورة المباركة»، وهى الثورة التى رعتها الإمارات بقوة. دعا «صالح» اليمنيين إلى الثورة على الحوثيين. وسارعت نوافذ الإعلام الفضائى إلى الحديث عن سيطرة قوات «صالح» على أنحاء صنعاء، لم يكن الأمر يعدو «النصر التليفزيونى»، لأن الأوضاع على الأرض كانت تسير فى اتجاه آخر.
بنفس الأداة التى أجاد «صالح» استخدامها فى صراعاته السياسية، نفذ الحوثيون حكماً بالإعدام فيه، فاستوقفوا ركبه، وهو يتحرك خارج صنعاء، وأطلقوا عليه النار، وكذا على بعض مرافقيه. وصف عبدالملك الحوثى -ومن ورائه إيران- اغتيال «صالح» بالنصر الكبير، وإحباط لمؤامرة كبرى كادت تتعرض لها اليمن، تحدث وكأنه رجل سياسة، وقفز على حقيقة أنه مجرد رجل «ميليشياوى» يحمل السلاح، ولا توجد فروق ذكاء أو نبل بينه وبين قتيله، الفارق تحدد فى سرعة الضغط على الزناد. من جهته لم يزل التحالف العربى يصر على استمرار المعركة، يدعمه فى ذلك إصرار سعودى إماراتى، وصناع قرار فى البلدين ظنوا أنهم ضربوا الحوثيين فى مقتل، عندما تصافقوا مع «صالح» ليوجه رصاصاته نحو شركائه فى الانقلاب، فإذا بهم يستيقظون -بعد أقل من 72 ساعة- على رصاصات إعدام حليفهم.
القهر بالسلاح لا يحقق استقراراً، والبطش لا يصنع ولاءً، والعنف لا يؤدى إلا إلى عنف مقابل. العرب والمسلمون فى أمَس الحاجة إلى التعلم من الدرس اليمنى، ومذاكرة كتب السياسة من جديد، وتخفيف حالة ولعهم بالقوة. بالأمس قُتل على عبدالله صالح، وخرج عبدالملك الحوثى منتشياً منتصراً، وقد يأتى الغد بالعكس، فيُقتل عبدالملك الحوثى ويخرج عبدربه هادى منصور منتشياً. الراقص بالسيف يدور فى حلقة مفرغة، فمهما كانت قوته، فإنه فى النهاية: «لن يخرق الأرض ولن يبلغ الجبال طولاً».