لا أعرف معنى أو أفهم منطق تلك المانشيتات المتواترة التى تعقب كل حادث إرهابى مروع يصيبنا، وهى تلك الشعارات التى تزف لنا بكلمات واثقة.. وعبارات يقينية راسخة البشارة: الإرهاب يلفظ أنفاسه الأخيرة وفى الغد القريب نعلن اندحاره وغيابه إلى الأبد فى مزبلة التاريخ وتعود بلادنا آمنة تنعم بالسلام.. وتتفرغ لتحدياتها الحضارية فى التنمية الشاملة التى تحقق الرخاء والرفاهية لشعب كابد كثيراً من ويلات المتآمرين.. وأحقاد الأعداء.. ومؤامرات أهل الشر والبغى..
ويقول مانشيت آخر: هذه بداية النهاية للإرهاب مدفوع الأجر.. إنه بهذا الاستهداف للعابدين الركَّع الساجدين يكون قد كتب بيديه السطر الأخير فى حكايته إذ كيف تدافع عن الدين وأنت تقتل المؤمنين به.. وهم يتعبدون خاشعين؟..
ومانشيت ثالث: استهداف المدنيين دليل على هزيمة الإرهابيين.. وإذا حاولت أن تبحث جاداً عن مبررات تلك البشارة وإلى أى معارف أو ثقافة تستند لا تجد سوى تبرير متهافت لا يغنى ولا يسمن من جوع، مفاده أن تلك المذبحة الدموية التى حصدت أرواح (309) مصريين فى مسجد الروضة بوحشية فى مشهد لم تشهد مصر له مثيلاً فى تاريخها الحديث.. إنما هى تفسر نفسها بنفسها دون عناء منا.. ودون الخوض فى تفاصيل متضاربة من التأويلات المختلفة أو الأطروحات المتباينة.. أو الجدل المرهق الذى يعتمد على الاستبطان والاستقراء والتحليل والاستنتاجات المختلطة، فلب القضية يشير بجلاء وسطوع إلى أن ذلك الانتقال الدموى الوحشى يعكس غلَّ المهزوم وإفلاسه وجزعه من بطش قواتنا المسلحة الباسلة بخفافيشه الظلامية المجرمة.. لكن الحقيقة أن الضربات الموجعة المتتالية لأوكار الإرهابيين والتضافر العظيم بين نسور قواتنا المسلحة وأبطال شرطتنا الباسلة، ليست المنوطة أو المسئولة بمفردها عن القضاء التام على إرهاب الإرهابيين حتى إعلان زوال دولتهم الباغية.. لأن الاعتداء على المصلين لا يعنى تغيير خطط وأساليب استراتيجية تلك الجماعات الإرهابية من مواجهة الجيش والشرطة إلى القتل العشوائى للآمنين فى بيوت الله مما يشى بإفلاسهم وتخبطهم وارتباكهم وقلة حيلتهم.. وإلا فأى عقل هذا الذى يخطط فيه لقتل عامة المسلمين وتعقبهم من داخل المسجد إلى خارجه وحتى عربات الإسعاف؟!..
لابد أن نسأل «التراث» ونستشهد به فيخبرنا على الفور ببديهية أن الدواعش يكفرون مساجد الصوفيين تلك التى تحتوى على أضرحة الأولياء.. كما يكفرون الموالد.. فذهاب شخص للصلاة فى مسجد تابع للصوفية.. وهو يعلم أن به ضريحاً لأحد الأولياء يعد كفراً يستحق بموجبة القتل.. والتاريخ القريب يذكرنا بذبح الشيخ الصوفى «سليمان أبوحراز» (وهو ابن قبيلة السواركة الذى كان يعتبره أهل سيناء الذين ينتمون إلى الصوفيه ولياً من الأولياء) على يد الإرهابيين من الوهابيين الذين اتهموه بالشرك، وذلك فى عام (2016)، فالتبرك بالأولياء عند «ابن تيمية» وتلاميذه بدعة تستحق القتل.. وتتطور جريمة قتل الولى إلى قتل المسلمين جميعاً والتى ظهرت بوادرها فى جريمة مسجد «الروضة».. أو كما يقول «أحمد عبدالمعطى حجازى»: «هؤلاء يكرهون الدولة الوطنية كراهية التحريم ويسعون إلى إحياء الخلافة تطبيقاً للحاكمية، أما الديمقراطية التى هى الأساس فى الدولة الوطنية فهى حكم الشعب وإذاً فهى فى نظرهم شرك وتقليد للكفار».. والخطاب الدينى الموروث يعلن الحرب على المختلفين ويسمى هذه الحرب جهاداً فى سبيل الله.. والمختلفون الذين يحاربهم هذا الخطاب ليسوا أتباع الديانات الأخرى فحسب بل هم أيضاً أتباع المذاهب الإسلامية الأخرى.. السنة يحاربون الشيعة.. والشيعة يحاربون السنة والجميع يحاربون الجميع.. أو كما يقول «صلاح عبدالصبور» شعراً: «.. هذا زمن الحق الضائع.. فلا يعرف مقتول من قاتله ومتى قتله.. رؤوس الناس على جثث الحيوانات.. ورؤوس الحيوانات على جثث الناس.. فتحسس رأسك.. فتحسس رأسك..». ومن ثم فإن الارتكان إلى مبرر أن تلك الفعلة البشعة النكراء رغم حدتها، فإنها لا تدل على قوة التنظيم لكنها تكشف تراجعه وضعفه، حيث فشل فى استهداف الأهداف الصلبة بعد زيادة تأمينها فبدأ يعتمد الآن على الأهداف غير المؤمنة بشكل كافٍ، هو ارتكان وتسليم بتصور خاطئ.. ودليل هش.. لأن الإرهاب يخوض معركته الدنسة وفقاً لاستراتيجية ثابتة تقوم على «تكفير المجتمع» والخطاب الدينى الموروث لا يرضى بديلاً لقناعاته.. أو تحولاً فى مساراته.. أو تعديلاً فى اتجاهاته الفكرية المفرخة للإرهاب.
إن الثورة التنويرية الشاملة التى تطلق سراح العقل من أقبية وكهوف التخلف وكهنوت السائد والمألوف والموروث والنفس الجاهلية والمياه الآسنة بالقبح والتخلف.. والأوراق الصفراء المسمومة بالفتاوى الشاذة والتاريخ الدموى.. والتحريم والتجريم والإقصاء وثقافة «الحلال والحرام»، هذه الثورة هى القادرة وحدها على اقتلاع جذور الإرهاب والتطرف الدينى وخطاب الكراهية.. هى.. وليس شىء آخر.