بعد انتهاء يوم عَمَلٍ طَويل قَضيته فى المُستشفى، وقبل مُغادَرتى بقَليل؛ بدَأ يتوافَد على اسْتِقبال تلك المستشفى خلال فَتراتٍ مُتتابِعة ما يَقْرُب مِن خَمسِ حالات مُختَلِفة الأشْكال والأعمار، كلُّهُم قد تعرَّضوا لهُجوم عن طريق كلب مَسْعور بنِهاية شارِع المُسْتَشْفى! وبينما كُنت أفْحَص بالطوارئ بعض الحالات الأُخرَى الخاصَّة بجِراحَة المُخ والأعصاب، كنت أستَمع مِن وَقتٍ لآخَر لحِكايات هؤلاء الأشْخَاص عن ذلك الكَلْب الشَرِس وكيف ظَهَر لهم فَجْأة، واسْتَمَعْت لهم باهتمام فى أثناء وَصْفَهُم الدقيق لمكَان تعرُّضَهم للهجوم حيث كُنت على وشَك مُغادَرة المُستشفى، وذلك حتى يَطْمَئِن قلبى أنَّه بَعيد عن المكان الذى تَرَكْت فيه سيَّارتى!
خَرَجْت من المُستَشْفى وأنا أحْمِل حَقيبتى وأسير مُسْرِعاً باتِّجاه سيارتى، أتفَقَّد المَنطقة بنظراتٍ مُخْتَلَسَة فى جميع الإتجاهات هَرَباً من ذلك الكَلْب الضال الذى يَحوم حَول المَكان ، ورغم أنِّى لا أخاف الكلاب بشَكْلٍ عام ، ولكنه كَلْب مَسْعور، وقد كُنت أتمنَّى فقط أن أصِل إلى إلى السيارة بأمان حتى لا أعود مِن جَديد إلى إلى المُسْتَشْفَى وأرْوِى لهُم تَجْرِبتى الشَخْصية، ولكن كحالة مِن تِلْك الحالات هذه المرَّة.. ووصلْتُ بحَمْد الله إلى سيَّارَتِى، ورَكِبْتُها بعد أن حَاوَلْت التأكُّد أنَّ ذلك الحيوان لا يستريح أسْفَلها ، ويُزْعِجهُ أن أُقْلِق راحَته بفَتْح باب السيارة!
وأنا فى طريقى إلى المَنْزِل، تَلَقَّيت مُكالمَة مِن أحَد أصدقائِى والذى كان بصَدَد المرور على أحَد المَرْضَى بالمُسْتَشفى، وكان يَطْمَئِن على الوَضْع فى المنْطِقة بعد سَمَاعه عن أخبار ذلك الكَلْب الضال عن طَريق الفيسبوك، فقد قَرَأ بوستات أشْخَاص قد تعرضَّت للهُجوم فى المنطقة بالفِعْل ويبدو أنهم قد نَشروا الخَبَر قبل حتى أن يتلقُّوا العِلاج اللازِم! ولكن قد تكون نيَّتَهم فى ذلك هى تَحذير للآخرين.. أوْضَحْت له الصورة تمَاماً، وحذَّرْتُه مِن المناطِق التى ذَكَرها ضحايا الهُجوم بالمستشفي.. بينما هو قد أبْدَى انْدهاشَه مِن تِكرار ذلك الأمر بمناطِق مُخْتَلِفَة، فقد أخبرنى أن هناك أيضاً كَلْب ضال بالأمس قام بالهُجوم على عدد مِن الأشخاص فى مَدينة الرحاب (حيث يَسْكُن هو بجوارى هناك )، وهَرَب الكَلْبُ وما زال البَحْث عنه جارياً.. وكأنها عَدْوَى وانْتَشَرَت بين تلك الحيوانات فجأة!
وَصَلْتُ أخيراً إلى مَنْطِقَة سَكَنِى بالرحاب، ورَكَنْتُ سيارتى أسفَل المَنزِل، وَدخَلْتُ مِن بوابة العمارة لأسْتَعِد للصعود على السُلَّم بكَسَلٍ شَديد بعد إرهاق ذلك اليوم الطويل.. وما أن صَعَدْت إلى الدور الأول، حتى فوجِئْت بمَخلوق خُرافى يَنْزِل على سلالِم العِمارة من الأدوار الأعلى فى هدوء! إنَّه كَلْب ضَخْم، داكِن اللون، توقَّف عندما لمَحَنِى أقِف بالأسْفَل عند الدور الأول وهو ينظُر لى، بينما كُنت أنظر اليه وهو يَقِف بالدور الأعلى وأنا فى ذهولٍ تام! لقد قَضَيت أكثر من ثلاثين عاما مِن حياتى فى مراحِل سِنيَّة مُخْتَلِفَة ومناطِق سكَنية مُتعدِّدة، قد أكون صَادَفْت فى بعض الأحيان قِطَّة تَنْزِل مُسْرِعة على السُلَّم.. ولكن لم يُصادِفنى أبداً طوال هذه السنوات كَلْب على سُلَّم عِمَارة.. طالَت فتْرَة ذهولى للحَظَات، ولم أرُد على تِلْك المفاجأة سِوَى بسُقوط لا إرادى لحقيبتى مِن يَدِى بينما استمرَّت نَظْرَة الذُهول مع خَلفيَّة صَوتية داخِلية مِن الصِراخ المُستَمِر أسْمَعها بعَقْلِى الباطِن، وظلَّ ذلك الكَلْب يَنْظُر إليَّ دون أن يَنْبَح أو يتحرَّك نَحْوِى، بينما كُل ما كان يَدور ببالِى وقتها هو ذلك السؤال المُهِم الذى ودَدْتُ لو أستَطيع أن أسأله لهذا المَخْلوق العَجيب: "إنْت اللى بيدوَّروا عَلِيه؟ ولَّا حَد تانِي؟!".
تحرَّك الكَلْب نَحْوِى بعد ذلك بهدوء، واقْتَرَب مِنِّى شيئاً فشئ، بينما تسَمَّرتُ أنا بمَكانِى وأنا أُتابِعه بعَينى فقَط، وأخذْتُ أَستعيد خِطَّة التعامُل مع ثُعبان الكوبْرا التى كُنْت أسمعها فى الصِغَر، بأن "لا تتحرَّك حتى لا يَلْدَغَك"، وأخَذ الكَلْب يَحوم حولى، يتفقَّد حَقيبتى وقَدمِى، ورغم أنِّى أعْتَاد ذلك مِن كِلابٍ أُخرَى كثيرة، ولكن فى ظل هذه الظروف ظَلْلتُ صامِتاً وكأنِّى أترقَّب لَحْظَة انْقِضاضِه.. وفَجْأة سَمِعْتُ صوتاً يأتِى مِن خَلْفى مُنادياً بكَلِمَة غريبة لم ألْتَقطِْها (يبدو أنه اسْم لذلك المَخلوق)، ولكن الكَلْب ظَلَّ بجانِبِى ولم يَسْتَجِب سَريعاً.. حتى اقْتَرَب ذلك الصَوت أكْثَر وهو يُنادى مُجَدَّداً، فأدَرْتُ رأسِى ببُطء لأجِد طِفْلاً صَغيراً يَقِف وهو يُشير إلى كَلْبِه أن يأتى إليه سَريعاً.. وهُنا عَرِفْتُ إجابة سؤالي.. فهذا ليس ذلك الكلب الضال والحمد لله.. فهَدَءْتُ ونَظرْتُ إلى إلى الطِفْل مُبْتَسِماً حتى لا يُلاحِظ توتُّرِى، بل أنى أخَذْتُ أُرَّبِتُ على الكلب أيضاً مُحاولاً إثبات هدوئى أمامه.. ولكنَّ ذلك الطفل قد نَظَر لى نَظرة عَجيبة، وأخذ كلبه الذى تَوَجَّه إليه، ليُغادِرا عُمارَتْنا سوياً ويَترُكانى أتنفَّس الصُعداء.
اكْتَشَفْتُ فى اليوم التإلى إلى أن ذلك الطفل وكَلْبَه هُما جاران لَنا، يسكُنانِ فى عمارة مُجاوِرة بالدور الأرضى، وذلك عندما لمَحْتُ الطفْلَ وهو يَنْظُر إليَّ مِن شِبَّاكِ مَنْزِله نَفْس النَظْرة العَجيبة، بينما لِسان حإلى إلى يَقول لَه: "لا مِش أنا.. مِش أنا يا حبيبي".