مقدماً أعلم أن البعض قد يجد فى هذه الكلمات سبباً ليشتعل غضباً وتشنجاً ويدخل إلى مزايدة لا مبرر لها.. لهذا فلنتفق أولاً على أن الكلمات التالية ليست دعوة لجلد الذات أو حشو الجراح بـ«الملح» بل هى محاولة لرسم صورة واقعية لحالنا تستهدف تحقيق «إفاقة» لنا جميعاً سواء فى «وطنى حبيبى الوطن الأكبر» أو «مصر هى أمى»..!
حتى الثامنة من مساء الأربعاء 6 نوفمبر كان كل شىء يمضى طبيعياً إلى أن أقدم «ترامب» على ما لم يستطع سابقوه من رؤساء أمريكا منذ عام 1995 -سواء كانوا من بين «الفيلة الجمهوريين».. أو «الحمير الديمقراطيين»- الإقدام عليه لتنفيذ قرار «الكونجرس» باعتبار مدينة المدائن «القدس» عاصمة لإسرائيل ونقل السفارة الأمريكية إليها..!
دقائق معدودة واشتعل الموقف.. ملايين المسلمين والمسيحيين الأقباط بدأوا زحفاً مقدساً لتحرير القدس من خلال العالم الافتراضى «فيس بوك وتويتر» وغيره من وسائط التواصل الاجتماعى.. هتافات تشرخ الحناجر «بالروح بالدم نفديك يا قدس.. واقدساه.. نموت نموت وتحيا القدس» وغيرها من الشعارات التى تلهب مشاعر المواطنين دون أن يكون لها أى نصيب من الواقع العملى.. شيخ الأزهر يرفض لقاء نائب الرئيس الأمريكى.. ويلحق به البابا تواضروس.. بل إن أصواتاً أخرى ارتفعت بإعلان «المقاطعة» لكل ما هو وارد من بلاد «العم سام» وكأننا قد حققنا انتصاراً وأجبرنا «البيت الأبيض» على التراجع عن هذه الخطوة التى أضافت صفحة جديدة فى وثائق تزييف التاريخ وسلب حقوق الشعوب والاعتداء على مقدساتهم، والتى بدأت قبل 100 عام بالتمام والكمال بوعد «بلفور» دون أن يتحرك أحد فى بلاد تمتد من الخليج العربى إلى المحيط الأطلنطى، بعد أن أصبح كل من يسكن هذه المساحة متحفزاً لشقيقه فلم يعد هناك ما يحقق لنا الترابط.. ولم تعد اللغة توحدنا.. حتى الدين أصبح يفرقنا.. وشرع البعض منا فى إعادة مأساة «قابيل وهابيل»!
قرار «ترامب» لم يكن الأول ضمن سلسلة خطابات الكراهية لكل ما هو عربى أو مقدس عنده ولن يكون الأخير، فستتبعه سلسلة أخرى من «قرارات الكراهية» هذه طالما بقى حالنا على ما هو عليه الآن باستسلامنا طائعين للمقولة الشهيرة للراحل السادات «99.9% من أوراق اللعب فى يد أمريكا»، وبمعنى واضح فكل العالم العربى لا يملك سوى 0.01% فقط من هذه الأوراق..!
الأمر لم يقف عند حد بيانات «الشجب والإدانة والاستنكار»، فجميعنا قد اعتاد عليها عند وقوع أى حدث، بل تعداها إلى الحد الذى دخلت فيه مؤسسات للمجتمع المدنى -يفترض فيها العمل من أجل من تمثلهم- إلى ما يشبه المزاد فى «أسواق الخضار أو حلقات السمك» دون أن تراعى هذه المؤسسات حقيقة الأرض التى تقف عليها.. دعوات لمقاطعة كل ما هو أمريكى.. فهل فعلاً نحن -كأمة عربية- قادرون على تنفيذ تهديداتنا فيما لا تزال أموال العرب التى تقدر بمليارات الدولارات تتخذ من البنوك الأمريكية «مخبأ» لها بعيداً عن أعين الشعوب أو رهينة لدى الأمريكان!
«نقابة الصيادلة» بدأت المزاد دون أن تستوعب ما هو حالنا فى مجال إنتاج الدواء، إذ أعلنت بدء حصر الأدوية الأمريكية لتبدأ مقاطعتها وتجاهلت الواقع الذى يؤكد أننا نستورد من احتياجاتنا من الأدوية عالية التَّقنية، مثل أدوية علاج أمراض «القلب والسرطان» وبعض الأمراض الخطيرة الأخرى.. إضافة إلى أن هناك 146 نوعاً من الأدوية المستوردة ليس لها أى بديل فى السوق وليس من الحكمة مقاطعة الأدوية التى نستوردها، اللهم إلا إذا كانت نقابة الصيادلة تستهدف التخلص من المرضى باعتبار أنهم يهدرون ميزانية الدولة..!
من جانبها لحقت «نقابة الأطباء» بالمزاد لتعلن حتمية مقاطعة جميع الأجهزة الطبية المستوردة، فى حين أن الواقع يؤكد أن حجم الإنتاج المحلى يبلغ 250 مليون دولار بينما المستورد ما يقرب من 900 مليون دولار، بما يشير إلى أن الصناعة المحلية من المستلزمات الطبية تغطى 25% فقط من حجم السوق، ويتم استيراد 75% لتلبية احتياجاتنا من هذه الأجهزة.
دعوة النقابتين للمقاطعة تتصادم مع بيانات أكاديمية البحث العلمى التى تؤكد أن التمويل المخصص للبحث العلمى فى مصر حالياً نحو 0.78% من الناتج القومى، وهو ما زال أقل من 1% والمنصوص عليه بالدستور، أى نحو من 18 إلى 19 مليار جنيه وأن 25% فقط من هذا التمويل يذهب للبحوث الطبية، وبحوث الصحة والدواء.. فكيف يمكن لنا المقاطعة؟!
دعوات المقاطعة لم تتوقف عند حد نقابتى «الصيادلة والأطباء» بل تعدتها إلى جموع كثيرة من المواطنين أخذهم الحماس ليبدوا استعدادهم لهذه المقاطعة دون أن يدركوا أن عجز الميزان التجارى بين ما نصدره وما نستورده قد بلغ 446.8 مليار جنيه تقريباً بما يعادل 46.4 مليار دولار.!
سلبية ملامح الواقع الذى نعيشه أو بمعنى أدق «نعانى منه» لا تتوقف عند حدود إنتاجنا أو حجم استيرادنا بل تمتد إلى ترتيب جامعاتنا بين جامعات العالم وواقع النظام التعليمى، إلى جانب تلك المأساة التى كشف عنها الاتحاد العربى للتنمية البشرية فى تقريره بأن معدل إنتاجية العامل العربى هو من أقل المعدلات فى العالم، وأن ساعات العمل الحقيقية للعامل أو الموظف العربى خلال الدوام اليومى لا تزيد على 18 دقيقة، إذا طرح منه الوقت الضائع!.
هذا هو واقعنا المرير، فهل سنسعى لتغييره أم سنظل مكتفين بـ0.01% من أوراق اللعب فى أيدينا نحن العرب.. ونعلن مقاطعتنا لكل ما هو أمريكى.. ونشرخ حناجرنا بـ«القدس لنا» وننجح فى استردادها فى «العالم الافتراضى» فقط..؟!