إنها ذلك البعبع الذى يخشاه الأغنياء ويُرعب الفقراء لو داهمهم بالخطأ.. لا تختلف فى ذلك شعوب العالم الأول عن الأخير، ولكن الفرق بينها يكمن فى الوعى والتطبيق.
لقّبوها بأسماء كثيرة منذ فجر التاريخ اشتركت جميعها فى سوء السمعة، حيث فُرضت على أسنّة الرماح، وغالى فيها الرومان، ولطخت صفحات التاريخ حكايات ظلم البشر متوارية فى ردائها، حتى جاء الإسلام وهذّبها وقلّم أظافرها وأنيابها التى كانت تنهش الفقراء، وأصبح فيها حق للسائل والمحروم.. لو صدق التطبيق.
إنها الضرائب، التعبير العصرى للجزية والجباية، والمرادف المدنى للزكاة.
ولا أريد أن أتمادى فى جلد الذات دون باقى الأجناس، فقد تنازلت لاعبة التنس الشهيرة نافرتيلوفا عن جنسيتها حتى تتخلص من عبء ضرائب تصل إلى ما يقارب نصف ثروتها رغم أن المتبقى بعد سداد حق الوطن كان يكفى أحفادها حتى الجيل الرابع.
ووثائق بنما بتفاصيلها المرعبة ليست ببعيدة، وقد كشفت أن الفساد هو أكثر ظاهرة تشارَك فيها سكان هذا الكوكب التعس وحققوا فيها العولمة كأفضل ما يكون. ومن نوادر الضرائب أنها كانت الجريمة الوحيدة التى استطاعت بها السلطات الأمريكية سجن «آل كابونى» زعيم المافيا والرأس المدبر لنصف جرائم الكرة الأرضية لعدة عقود بلا أى عقاب، حتى جاءت تلك المبروكة ووضعته خلف القضبان بتهمة التهرب الضريبى ليخرج شيخاً طاعناً فى السن.
ومن المدهش أن هنالك علاقة طردية بين ارتقاء الدول وزيادة الضرائب المفروضة على الفرد، والتى تصل إلى 40% فى بلجيكا مثلاً. أما فى عالمنا الثالث فهنالك سيرك منصوب بلاعبى أكروبات ومروِّضى وحوش (للتحليق) على المواطنين المستبيحين حق الدولة، يصحبه صرخات بعض المسحوقين بين الأقدام بسبب الخطأ البشرى الوارد أحياناً. والمعضلة أن أول المظلومين من النظام الضريبى هم العاملون عليها أنفسهم بدخول منزوعة الضرائب من المنبع لا تغنى صاحبها عن السؤال ولا عينه عن التطلع، وهى ليست عذراً رغم ذلك لأكل الحرام. نستثنى طبعاً النافذين من قوانين الجاذبية والمنطق والدين والذين كانت رواتبهم تتعدى مئات الآلاف فى الشهر الواحد لأنهم من المقربين.
وهكذا يلقى النظام بالجميع إلى منطقة العذاب بين هاوية السقوط أو تحمُّل ثمن الصمود الفادح بالقبض على جمر الفضيلة بعد أن أضحت مصيبتنا ليست الفساد، ولكن تقنين الفساد، وقد تعايشنا مع الفاتورة المضروبة والإقرار الزائف والميزانية المفبركة على أنها من مقتضيات الحال وطبائع الأمور، وقد تحررت بمنتهى الخلاعة من ثوب الخجل والعار.. وأصبح المطلوب من منفذ القانون مهارات الرقص على الحبال وهو أعزل عارى اليدين خاوى الجيوب، أو أن (يطنش) ويتقبل فكرة أن عيادةً مزدحمة لا موضع فيها لقدم، الكشف فيها ببضعة مئات، لا يحتكم صاحبها على دخل يستوجب الحد الأدنى من الضرائب.
وهكذا تحولنا إلى شخوص مسرحيات هزلية نتبادل فيها السيناريوهات الهابطة و«نبلعها بمزاجنا».
وكعادتى عند لقاء أحد المسئولين جداً عن الوطن ينخفض سقف آمالى وطموحاتى لوطنى حتى لا أتجرّع خيبة الأمل التى لازمتنا سنين طويلة من الوعود البراقة، كان لقائى برئيس مصلحة الضرائب وأنا أحمل من شجون الوطن ما يلجم الكلمات.. ولكننى لمست روحاً جديدة لم أعتدها.. لم ألمح أى بطحة من تلك التى تغلق الفم والعين وكل أبواب التغيير.. لمته مقدماً على مرتبات الصفوة المعتادة (بلسانى المسحوب منه)، ليبلغنى بفخر يشوبه استحياء أنه يطبق الحد الأقصى للأجور بحزم على نفسه وكل العاملين ويتبرع بجزء كبير من راتبه للدولة ويتحدى فى ذلك الجميع.. وقد كتب شهادة وفاة عهد فساد المرتبات وبدأ بنفسه، فكان هو القدوة التى تفتقدها باقى مؤسسات الدولة التى لا يزال «أربابها بالدف يضربون» ليتفرغ لتحديات أخرى كثيرة لكنه يواجهها بلا خوف، ببساطة لأن بيته ليس من زجاج.. أُخذنا بحكايات تطهير ومحاربة فساد طال الأعناق.. لو أمهله القدر فستكون بحق عودة الروح. شعرت ببريق أمل كلما أطفأته الخبرات السيئة ظهر أحد حمَلة مشاعل الوطن ليضيئه فى صمت، معلناً أن مصر لن تموت.. وتظل إشكالية العدالة الاجتماعية وقدرة النظم البشرية على تحقيقها من خلال التشريعات والقوانين اللاهثة خلف أطماع البشر وحيلهم التى لا تنتهى هى معضلة الأنظمة فى كل الأزمنة.. فهل نقترب من تحقيق المعادلة؟.. وللحديث بقية.