ينص الدرس على أهمية الحوار.. وتدور فكرته الرئيسية حول ضرورة أن يسمع هذا رأى ذاك، وأن يحترم ذاك اختلاف توجه هذا، طالما أن أحدهما لا يحاول فرض رأيه غصباً أو تطبيق اختياره عنفاً. ويتحدث المعلم ويشرح ويستفيض فى آداب الحوار، وأهمية النقاش، وضرورة الاتفاق على أن الاختلاف لا يفسد للود قضية.
لكن المعلم هاج وماج، واحمرت عيناه، واحتد صوته، واتهم «الولد قليل الأدب».. «عديم التربية» الذى جرؤ على أن يجاهر بأن هذا الدرس ليس إلا حبراً على ورق، وأن مؤشرات الحياة من حوله وأمارات الحوار فى كل صوب ينظر إليه تشير إلى أن الاختلاف يفسد للود كل قضية.
فسدت القضية المراد تدريسها للأولاد والبنات، وانهارت القيم الرائعة والأفكار البناءة المحشو بها الدرس حشواً ينافس محشى الكوسة والباذنجان فى كم الأفكار المنمقة وترتيبة القيم المرتبة وكأنها حبات أرز ملتحمة بخلطة المحشى المعتبرة. فأمام أول اختبار لتطبيق محتوى الدرس، لم يتحمل شارحه الانتقاد واستغل موقعه ككبير لإخراس صوت الصغير، وإلصاق تهمة «قلة الأدب وانعدام التربية» لأنه جرؤ على المناقشة وطرح فكرة مغايرة.
تغير المشهد السياسى فى مصر تغيرات حادة، وتقلبت الساحة الاجتماعية تقلبات كفيلة بأن تصيب أصلب الشعوب وأقواها بإصابات عاتية وجروح غائرة. وعلى مدار السنوات السبع الماضية، وهى سنوات ما بعد هبوب الرياح الربيعية، شهد المصريون «مراجيح» سياسية ما أنزل الله بها من سلطان. فبين جلابيب دينية تخفى أهوالاً سياسية، وأغلفة حزبية لم تسفر إلا عن كيانات كرتونية، وجماعات شبابية دفعت بها الرياح الثورية إلى «سابع سما» ثم ما لبثت أن خسفت بها تفاصيل الواقع «سابع أرض»، وهلم جرا.
وقد جرى العرف أن يقول البعض إن المصريين بما تعرضوا له من تجريف اجتماعى وتعليمى وأخلاقى لا يصلحون لممارسة الديمقراطية، أو أن هذا الشعب ينبغى أن يقاد بالكرباج، أو أن البلطجة التى أصبحت أسلوب حياة، تجعل من قيم مثل التعددية والحوار والخلاف والاختلاف أمراً من رابع المستحيلات.
لكن من رابع المستحيلات أيضاً أن يستمر المصريون فى تخوين بعضهم البعض، والالتزام بصدى الصوت الواحد المتكرر فى كل ما يسمعون أو يقرأون أو يشاهدون. ولأن علاج القرحة لا يكون بإضافة المزيد من القرح، فإن عمليات وأد الحياة الحزبية وجهود خنق الأصوات التى تبدو نشازاً لأنها تردد كلمات غير تلك المنصوص عليها فى أدبيات وحدة الصف وملازم الاصطفاف الوطنى.
الوطن المفرغ من الألوان والمغسول بكلور ليبدو ناصع البياض هو وطن منزوع الدسم لا مذاق له أو شخصية. صحيح أن أخطار تسلل مدعى التدين والمتاجرين بالدين قائمة، وصحيح أيضاً أن المراهقة السياسية واردة. كما أن احتمالات الاندفاع الشبابى والتحليق الخيالى فى عوالم افتراضية ليست فقط محتملة بل شبه مؤكدة. لكن كل ما سبق لا يعنى بأى حال من الأحوال أن يظل الحال على ما هو عليه من صوت واحد للإعلام، وساحة خالية من التوجه والتوجه الآخر فى السياسة.
المحصلة الحالية هى أن كل من هب ودب يفتى فى الأحوال. الصوت الواحد المشكك فيما عداه من أصوات ويخوّن كل من يتجرأ على التغريد خارج السرب يدفع البعض إلى الانجراف وراء ما يسمعه على «القهوة»، أو ما يشاهده على قناة الإخوان، أو ما قاله له أحدهم نقلاً عن ابن عمته الذى سمع من زوج خالته أن حقيقة الوضع كذا وكذا. والتوجه الحالى الواضح وضوح الشمس فى الإعلام يعكس ملكية أكثر من الملك.
ملكية عقول الشعوب ليست حكراً على أحد. وحتى لو تظاهرت الشعوب بأنها لا تمانع فى تسليم عقولها، فإن التظاهر لا يدوم طويلاً، هكذا يقول التاريخ. التاريخ الحديث فى مصر يشير إلى أن السنوات التى شهدت فيها البلاد حراكاً سياسياً -ولو كان ناقصاً- وعايشت توجهات حزبية مختلفة -ولو كان بعضها افتقد النضوج وقبل التدجين- كانت أكثر قدرة على امتصاص الغضبات الشعبية وإعادة توجيه الرغبات الهادفة إلى التغيير الجذرى. فما بالك لو كان الحراك مكتملاً والأحزاب ناضجة؟!
نضوج المصريين الشعبى فى حاجة ماسة إلى أصوات مختلفة عن الصدى الذى يصر البعض عليه. فكثرة الصدى تولد الصدأ فى العقول والقلوب. حتى أولئك المواطنون الذين يجدون فى السكتة الدماغية التى أصابت الأحزاب السياسية، الكرتونى منها والهلامى والموسمى (الذى لا يظهر إلا فى المواسم الانتخابية) راحة ونعمة، فعليهم أن يراجعوا أنفسهم، وأقرانهم ممن يهبدون ويرزعون فى جلساتهم المغلقة وتجمعاتهم الصالوناتية على مقاهى الأدباء فى وسط القاهرة ممن يقولون كلاماً ثورياً حماسياً مبهراً عن الظلم والقهر والصوت الواحد والوطن السائر فى طريق مظلم لا رجاء فيه، فعليهم أن يعيدوا توجيه هذه الأفكار لتكون ذات فائدة تتعدى حدود المقهى والمشاريب.
والتحجج بأن الأصوات المطالبة بتحريك مياه السياسة الراكدة وضخ دماء جديدة على الساحة مصيرها الحبس والتشهير وتلفيق الاتهامات ليس مقبولاً. فليس مع المعقول -حتى لو صحت الحجة- أن يغامر أحدهم بالحبس أو التشهير أو التلفيق لجموع المثقفين والأدباء والكتاب. القاعدة الشعبية العريضة فى حاجة إلى توعية وتثقيف. الوعى والثقافة السياسيان لا يتحققان فقط عبر مطالبة الشعب بهدم الدولة وقلب نظام الحكم وحرق الأقسام، إلى آخر القائمة التى تعلم مغبتها الشعب جيداً فى أعقاب يناير 2011. كما أن أولى الأمر فى حاجة إلى الاقتناع بأن الاختلاف لا يفسد بالضرورة للوطن استقراراً أو أماناً أو مساراً. أما أن نلقن الأولاد فى المدارس درساً عن الحوار والنقاش واحترام رأى الآخر ثم نحرمهم من تطبيق ما تعلموه، فهذا من شأنه أن يفسد للوطن كل قضية.. إنها لعنة الصوت الواحد.