يبذل الشاعر الكبير أحمد عبدالمعطى حجازى -فى مقال أخير بـ«الأهرام»- جهداً وافراً مستحضراً عصارة فكره وبلاغة أسلوبه فى اتجاه الثورة التنويرية الثانية التى نهفو إليها، ذلك إذا اعتبرنا أن الثورة الأولى ظهرت فى نهضتنا الحديثة التى انفصلنا فيها عن ركائز دولة العثمانيين الدينية، واستعدنا استقلالنا الوطنى وعرفنا العلوم الحديثة وسعينا نحو الديمقراطية وحقوق الإنسان، وقاد رواد التنوير التبشير بالدولة المدنية الحديثة التى تفصل الخطاب السياسى عن الخطاب الدينى.. أو الدولة الدينية عن الدولة المدنية.. وظهر محمد عبده وعلى عبدالرازق وجمال الدين الأفغانى و«الطهطاوى» وقاسم أمين وطه حسين.. ويقارن «حجازى» بين ثورة «مارتن لوثر كينج» -وأوروبا تحتفل هذه الأيام بذكراه الخمسمائة- على الكنيسة الكاثوليكية لأنها كانت تتاجر بالدين وتخلطه بالسياسة وتنحاز للأمراء والملوك الطغاة وتعتبرهم ظلالاً لله على الأرض، بالإضافة إلى محاربتها للعلم ومصادرتها لحرية التفكير والتعبير، ورفض كل فكرة أو رأى أو اكتشاف يخالف ما جاء فى التوراة والإنجيل، وكانوا يزعمون أن كل ما يحتاج إليه البشر فى دنياهم وآخرتهم مذكور فى هذه الكتب الدينية وبالتالى فهم ليسوا بحاجة لعلم جديد حتى لو كانت فيه حياتهم ونجاتهم من الجهل والتخلف والجوع والانقراض.. ونحن نعرف ما صنعته الكنيسة الكاثوليكية مع «كوبرنيك» ومع «جاليليو» ومع «جوردانو» ومع سواهم من الفلاسفة والسياسيين وعلماء الطبيعة والأطباء والمؤرخين والفنانين ومنهم الفنان المسرحى الكبير الفرنسى «موليير» الذى أضحك الملايين فى عصره والعصور التالية بمسرحياته الكوميدية الخالدة مثل «طرطوف» و«المتحذلقات» و«البخيل» و«عدو البشر».. وقد هاجم فى «طرطوف» ازدواجية الذين يتسربلون بأردية التقوى والفضيلة ويتسترون وراء الدين وهم فى حقيقة الأمر أفاقون انتهازيون يسعون إلى كل ما هو حقير ودنىء ويتناقض مع تعاليم الدين السمحة ومكارم الأخلاق، فقال أحدهم إن «موليير» شيطان متجسد فى ثوب رجل، وإنه أشهر مخلوق فاسق عاش على الأرض حتى الآن، وجزاء تأليفه «طرطوف» هو أن يتم حرقه على الخازوق ليذوق من الآن نار الجحيم.
وحينما مات «موليير» على خشبة المسرح بعد أن أدى دوره انتقم منه رئيس أساقفة «باريس» برفضه السماح بدفنه فى مقابر المسيحيين لأنه كان يعده خارجاً عن الدين.. ولم تجد زوجته حلاً سوى أن تتوسل للملك ليتدخل فأصدر أمره فى السر إلى رئيس الأساقفة بتغيير موقفه فاضطر أن يسمح بدفنه فى هدوء فى ركن قصى من مقبرة «سان جوزيف» دون أن يؤخذ جثمانه إلى الكنيسة لإجراء الشعائر الدينية.
يقارن الشاعر والمفكر «عبدالمعطى حجازى» بين ما فعلته العصور الوسطى والكنيسة الكاثوليكية، ومحاكم التفتيش بين هؤلاء، مع ما فعلناه نحن أيضاً مع المنصور الحلاج ومع السهروردى المقتول وابن رشد وابن عربى.. ولا نزال نصنع مع حلفائهم من أمثال «منصور فهمى» و«على عبدالرازق» و«طه حسين» و«فرج فودة» و«نجيب محفوظ» و«نصر حامد أبوزيد» و«إسلام بحيرى».
وعن الشيخ «على عبدالرازق» والحكم ضده بسبب كتاب «الإسلام وأصول الحكم» الذى أصدره الأزهر بإجماع أربعة وعشرين عالماً من هيئة كبار العلماء بإخراجه من زمرة العلماء، والذى يقضى أيضاً بمحو اسمه من سجلات الجامع الأزهر والمعاهد الأخرى وطرده من كل وظيفة وقطع مرتباته فى أى جهة كانت وعدم أهليته للقيام بأى وظيفة عمومية دينية كانت أو غير دينية، يقول فى ذلك د.جابر عصفور: «إن ما ينطوى عليه الكتاب من شجاعة وجسارة مؤكداً أن الواقع المحسوس الذى يؤيده العقل ويشهد به التاريخ الإسلامى قديماً وحديثاً هو أن شعائر الله سبحانه وتعالى ومظاهر دينه لا تتوقف على ذلك النوع من الحكومة الذى يسميه الفقهاء (خلافة).. هذه الشجاعة فى الطرح كان لها دوى القنبلة التى أحبطت كل المشاريع المضمرة والظاهرة فكان لا بد من عقابه بما يتناسب وجرمه».
وقبل أن يتوفى الشيخ على عبدالرازق فى صمت ومرارة سنة (1966) ذهب إليه أحد الكتاب يطلب موافقته على طبع الكتاب من جديد.. وفى منزل الشيخ دار الحوار التالى بين الناشر والمؤلف أورده «محمود عوض» فى كتابه «أفكار ضد الرصاص»:
- هل تسمح لنا بإعادة طبع كتابك العظيم «الإسلام وأصول الحكم»؟
- لا.. لا يا سيدى.
- لماذا؟!.. هل أنت تتخلى عن كتابك ورأيك؟!
- لا.. لست أتخلى عنه أبداً.. ولكنى لست مستعداً لأن ألاقى بسببه أى أذى جديد.. إننى ما عدت أستطيع ذلك.. كفانى ما لقيته.. هل تعرف أنهم كادوا يطلّقوننى من زوجتى؟!
- لهذا الحد؟!
- نعم.. على أننى لحسن الحظ لم أكن متزوجاً حينذاك.. فضاعت عليهم الفرصة.
- لقد انتهى ذلك العهد.. ولن تلقى اليوم.. ولن يلقى كتابك غير التكريم والتقدير والإشادة من المفكرين ومن الدولة على السواء..
- من يدرينى؟!.. من يدرينى؟! أريد تأكيداً من الدولة.. أريد ضماناً...
- إن واقعنا الفكرى والاجتماعى الجديد هو خير ضمان..
- لم أعد أحتمل أى مغامرة جديدة.. من يدرى؟!.. اطبعوا الكتاب على مسئوليتكم ولا تطلبوا منى إذناً بغير ضمان أكيد أطمئن إليه..
يقول «محمود عوض»:
«هذه الكلمات قالها عبدالرازق فى سنة (1966) ثم مات.. مات بلا ضمان».