حين اكتشف الأسكتلندى ألكسندر فلمنج أن بعض أنواع الفطر تفرز مادة معينة يمكنها أن تقضى على البكتيريا الضارة وأطلق عليها ذلك الاسم الشهير «البنسلين».. لم يكن يتخيل أحد أن اكتشافه الذى غير وجه الطب والدواء فى العالم سيتسبب فى أزمة كبيرة لأحد وزراء الصحة فى مصر بعدها بأكثر من مائة عام!!
فمنذ أن تم اكتشاف تلك المادة السحرية ولم يحدث أن اشتكى أحد من عدم توافرها مطلقاً.. بل إن المشكلة تظهر حين تفشل تلك المادة من أداء دورها.. فيبحث الأطباء عن مادة غيرها للسيطرة على الميكروبات الماكرة التى لا يقتلها البنسلين..!
فقط فى مصر.. وفى عهد سيادة الأستاذ الدكتور وزير الصحة الحالى.. يتحول البنسلين إلى مشكلة كبيرة.. ويختفى من الأسواق بشكل مريب دون سبب محدد.. بل ويظهر اسمه بين الأدوية التى تخضع لقوانين السوق السوداء.. ليباع بأضعاف سعره الرسمى.. فى غياب تام لوزارة تحمل من مهامها الأساسية مهمة الرقابة على أسواق الدواء!!
الطريف أن سيادة الوزير لا يحاول أن يجدد فى أسلوبه للتعامل مع الأزمات.. فلا بد أن ينكر الأزمة فى البداية بشدة.. ويصرح بثقة كبيرة تصريحه المستفز المعتاد بأنه لا أزمة فى ذلك العقار الحيوى.. ثم لا يلبث أن يدرك عدم جدوى الإنكار.. ليخرج بالتصريح الأكثر استفزازاً.. أن الأزمة لا تشمل العديد من العقاقير.. وأن هناك عقاقير كثيرة متوافرة.. وكأن ذلك المبرر يمكن أن يعوض اختفاء البنسلين بلسان حال عجيب لا أستطيع فهمه أبداً!!.. الأمر يشبه رد الإمبراطورة مارى أنطوانيت حين اشتكى لها الشعب أنه لا يجد الخبز.. فردت بثقة شديدة أنهم يمكنهم استبدال الخبز بالجاتوه!!
لقد تسبب اختفاء البنسلين فى أزمات صحية لعدد كبير من المرضى.. أعرف شخصياً أكثر من عشر حالات تعانى من مرض الحمى الروماتيزمية توقفت عن تعاطى تلك «الحقنة» الشهرية التى تحميها من الإصابة بارتجاع فى صمامات القلب.. وأصبحوا معرضين وبشدة لتفاقم الحالة بشكل ربما يهدد حياتهم نفسها!!
أى إنه بمعنى أكثر وضوحاً.. وبمنظور مالى بحت.. فاختفاء البنسلين سيكلف الدولة أكثر بكثير من قيمته الحقيقية.. هذا إذا افترضنا أن عدد حالات الإصابة بارتجاع صمامات القلب سيزداد.. بما يحمله هذا من تكلفة أسعار الصمامات وتكلفة الجراحات لهذه الحالات!!
الطريف أن أسعار الأدوية تحديداً قد تعرضت لثلاث زيادات فى عهد الوزير الحالى لأول مرة ربما منذ أكثر من عشرين عاماً.. ولكن يبدو أن تلك الزيادات التى ضاعفت من أسعار الدواء لم تكن كافية للسيطرة على ذلك السوق الحيوى.. وأن سيادة الوزير وإدارة الصيدلة بالوزارة مشغولون بمعاركهم مع نقابة الصيادلة وهيئة الحق فى الدواء أكثر بكثير من انشغالهم بتوفير الدواء نفسه.. وأن المريض وحده هو من يدفع الثمن فى النهاية!!
المشكلة أننا نادينا كثيراً أن يتم تشغيل مصانع القطاع العام من جديد بطاقتها الحقيقية لتوفير مثل هذه الأصناف.. خاصة أن الحجة المكررة لنقص الأدوية فى الأسواق لا محل لها من الإعراب فى هذه الأزمة.. فالبنسلين كمادة فعالة ليس باهظ الثمن.. وطريقة التصنيع ليست سراً.. لذا فتصنيع تلك الأدوية محلياً للوصول إلى الاكتفاء الذاتى منها ليس صعباً.. ولكن يبدو أن سيادة الوزير يرفض الاستماع لمثل هذه الآراء لسبب لا يعلمه إلا الله!!!
إن توفير الأدوية الحيوية يدخل فى نطاق الحفاظ على الأمن القومى.. وتكرار نقص مثل هذه الأدوية يهدد مسيرة هذا الوطن الذى تعتبر الثروة البشرية أحد أهم موارده الطبيعية.. وعقار مثل «البنسلين» ينبغى ألا يتعرض لمثل هذه الأزمات.. حتى وإن كان سيادة الوزير لا يحبه!!