لن أزايد وأدَّعى أننى من الشجاعة لأتجاهل الخلفية الاجتماعية للإنسان، لكنى أزعم أنه ليس من حق أحد أن يُحكم عليه مؤبداً بالحياة كمواطن من الدرجة الثانية، بل يجب أن تكون ظروفه مدعاة للفخر بنجاحه وتحديه لواقع لا يد له فيه.
فنحن لسنا سلالات حيوانية تخضع لنقاء النوع، بل نحتاج معايير أكثر عدلاً ورقياً.. معايير أخلاقية وعلمية ومهنية وليسقط من يسقط بلا وساطة أو عنصرية، وسيقودنا الأخذ بالأسباب ونظرية الاحتمالات المنطقية لنتيجة تبدو عنصرية ولكن دون أحكام مطلقة تنشر الحقد الطبقى واليأس والظلم بين الطبقة الممثلة لغالبية المجتمع، فالغرس الطيب غالباً يخرج نبتاً طيباً لكنه ليس ارتباطاً مطلقاً، والبيئة غير المناسبة ستنتج مواطناً غير مؤهل لأدوار معينة فى الحياة.. فلمَ لا نجعل ذلك مترجماً لنتائج اختبارات تثبت ذلك؟ فإذا نجا أحدهم استثنائياً وكان أكثر رقياً من رفقائه الأوفر حظاً فى الحياة فلا نبخسه حقه، وفرصة أولاد الطبقة الأرقى ستكون أفضل.. ولكن كنتيجة للاختبارات النفسية والأخلاقية والمهنية التى يجب أن توضع على أسس علمية والتحريات الدقيقة التى قد تصل إلى استقصاء سابقة غش فى اختبار.. مخالفات المرور.. مشاجرات الشباب.. بل أذهب إلى أكثر من ذلك بابتكار اختبارات عملية أقرب ما تكون للكاميرا الخفية (التى نستخدمها للفكاهة والتفاهات فقط) لاكتشاف ردود الفعل فى المواقف الصعبة والاستعداد للكذب مثلاً للنجاة.. وكذلك التحرى عن الأصدقاء (فهم أقارب آخرون بإرادتنا يعبرون عن اختياراتنا فى الحياة) ولنا فى الحياة عبرة.
فتاريخياً.. كانوا قديماً يحتقرون (المغنواتى والمشخصاتى).. الآن يلهثون لالتقاط الصور مع الفنانين ويفتخرون بصداقاتهم حتى من هم دون المستوى.
وكانوا يحتقرون (الجورنالجى).. الآن يمثل الإعلام السلطة الرابعة والأكثر تأثيراً، وكانوا يحتقرون هذا الشخص الثرثار المقاوح، الذى لا يشترط لعمله أى شهادة.. الآن يحصل المحامى على أعلى الرواتب.. حتى مهنة (الخوجة) لم تكن على درجات متقدمة فى السلم الاجتماعى ولنا فى (أستاذ حمام)، الذى قدمه العبقرى نجيب الريحانى، النموذج الذى أفطر قلوبنا.. ليصبح للمعلم وضعه الأدبى المرتبط شرطياً برقى الدول بغض النظر عن التردى المادى والاجتماعى الذى أصابه فى وطننا فأخذ عدة أجيال فى سيل الفساد والإهمال.
أما جغرافياً، ففى الغرب يمارس الشباب المهن الدنيا كمرحلة انتقالية فى حياتهم بلا غضاضة.. وفى اليابان سيضحكون من فكرنا لأنه ليس لديهم مهنة عامل نظافة منزلية أصلاً فكلهم يقومون بذلك.
ولو استسلمت البشرية للعنصرية لفقدت أغلب وقود حضارتها الذى صنعه أكثر الناس احتياجاً.. أليست الحاجة أم الاختراع؟
ولحرمت البرازيل من الطفرة الإصلاحية التى حققها لها ماسح الأحذية، لولا دى سيلفا، برئاسته مدتين متتاليتين، ولما تبوأت ابنة البقال، تاتشر، مكانها فى 10 داوننج استريت، ولما اختار الله سبحانه وتعالى أغلب رسله من رعاة الغنم وأصحاب الحرف ليحملوا مشاعل الهداية للبشر. فيا ترى لو كانت أمى (خدَّامة).. هل يُحكم علىَّ أن أظل أنا وكل نسلى (خدَّامين) حتى لو اجتهدوا وتعلموا؟ وبعيداً عن المادتين 14 و53 من الدستور اللتين تؤكدان المساواة فى الحقوق والواجبات، وبعيداً عن ميثاق حقوق الإنسان، أريد أن أوجه بعض الأسئلة للسيد المسئول فى برجه العاجى وأرجو ألا يعتبرها إساءة تستدعى رفع دعوى سب وقذف ضد العبدة الفقيرة لله:
- هل تجزم أنك من سلالة كلها من أفاضل القوم؟ وإلى أى جيل يكون انتماؤك.. الأب فقط أم الجد الأول أم الثانى؟
- إلى أى درجة تضمن رقى سلالتك؟ هل تكتفى بإخوتك.. أبناء العمومة.. الأخوال أم الأقارب من الدرجة الثالثة أو الرابعة؟
- لو تعثر أحدهم واضطر للعمل بمهنة بسيطة هل تسقطه من حساباتك وذوى رحمك وقرباك وتتبرأ منه؟
- لو ارتكب أحد أقاربك جريمة قد تكون حتى مخلة بالشرف والأمانة.. هل تقبل أن تتم تنحيتك من منصبك لذنب لم تقترفه؟ ألن تشعر بظلم حرمانك مما تستحقه باجتهادك لجريمة ارتكبها غيرك؟
اسمح لى أن أجيب عن نفسى، فأنا لا أضمن أجدادى أو أقاربى من أى درجة من الدرجات، ولا أشعر بخزى أن يكون أحدهم عامل نظافة أو حتى شقياً، ففى السجون الكثير من الحكايات أبطالها من أبناء الطبقة الراقية.. فهل من العدل أن أُحاسب على جرم أخى أو أبى؟ فما بالك إذا كان (كما قال الشاعر) عسر الحال.. فقر الحال.. ضعف الحال مأساتى؟.. وللحديث بقية.