تعاقد معى منتج على كتابة سيناريو وحوار مسلسل لرائعة نجيب محفوظ «حضرة المحترم» وهو يتصور أننى سأكتب عملاً فكاهياً ضاحكاً يمثل وجبة خفيفة لتسلية المشاهد.. فهو لم يقرأ الرواية ولم يعلم بالتالى أنها قاتمة ذات مضمون فلسفى عميق، وتشمل أحداثاً ذات طبيعة خانقة تتجلى فيها حكمة الموت.. وعبث الوجود.. وأظنه لو علم ذلك ما كان تحمس لإنتاج المسلسل.. لكنى خدعته.. ووافقته على تصوره ووعدته أنى سوف أضحك الملايين من خلال مسلسل مُسلٍّ ملىء بالمغامرات والقفشات والمواقف الفكاهية.. ذلك أنى كنت تواقاً إلى كتابة سيناريو وحوار تلك الرواية البديعة محتفظاً بأبعادها الفلسفية والإنسانية.. المدهش أننى لم أخدع المنتج فقط ولكن -دون أن أقصد- خدعت أيضاً الرقيبة المسئولة عن إجازة المسلسل التى توقفت من خلال الملخص الذى قدمته عند حدود البعد الاجتماعى أو الدرس المستفاد من المحتوى الأخلاقى للعمل الذى لا يعدو أن يكون -من وجهة نظرها طبعاً- متمثلاً فى أهمية مثابرة الفرد وكفاحه من أجل تحقيق آماله وأحلامه.. فمن جد وجد.. ومن زرع حصد.. ولم تنتبه إلى البعد الفلسفى المتصل برحلة بحث البطل عن الله.. واليقين ومعنى الوجود والعدم ولغز الموت وعبثية الحياة.. من خلال «عثمان بيومى» الموظف البسيط الفقير، فهو ابن سائق كارو عانى من شظف العيش وقسوته ويطمع فى أن يصير مديراً عاماً للمصلحة الحكومية التى يعمل بها.. وهو منذ أن دخل الإدارة يتطلع إلى المثال القوى القابع وراء المكتب الفخم فى الحجرة الزرقاء المقدسة «حجرة المدير العام» ذلك الذى يحرك الإدارة كلها من وراء برفان فى نظام دقيق وتتابع كامل يذكر الغافل بالنظام الفلكى وبحكمة السماوات.. وتمثل درجة المدير العام لديه مقاماً مقدساً فى الطريق الإلهى اللانهائى.
يقول «نجيب محفوظ» فى وصف انطباع «عثمان بيومى» بعد اللقاء الأول مع المدير العام: وراح يلوم نفسه كيف فاته أن يرى بكل عناية حجرة صاحب السعادة المدير.. كيف فاته أن يملأ عينيه من وجهه وشخصه؟!.. كيف لم يحاول أن يقف على سر السحر الذى يخضع به الجميع فيجعلهم طوع إشارة منه.. هذه هى القوة المعبودة.. هى سر من أسرار الكون.. على الأرض تطرح أسراراً إلهية لا حصر لها لمن له عين وبصيرة.. إن الزمن قصير بين الاستقبال والتوديع ولكنه لا نهائى أيضاً.. هناك طريقة سعيدة تبدأ من الدرجة الثامنة.. وتنتهى متألقة عند صاحب السعادة المدير العام.. هذا هو المثل الأعلى المتاح لأبناء الشعب.. تلك هى سدرة المنتهى حيث تتجلى الرحمة الإلهية والكبرياء البشرى..
يقول «حمزة السويفى» مدير الإدارة لـ«عثمان بيومى»:
- السعادة هى غاية الإنسان فى هذه الأيام.
- لو كان الأمر كذلك لما سمح سبحانه بخروج آدم من الجنة.
- إذاً ما الهدف من الحياة فى نظرك؟!
أجاب باعتزاز: الطريق المقدس.. طريق المجد.. أو تحقيق الألوهية على الأرض.
فتساءل «حمزة» بدهشة:
- أتطمح حقاً إلى سيادة الدنيا؟!
- ليس كذلك بالدقة.. ولكن فى كل موضع يوجد مركز إلهى و«عثمان» بطبيعة تكوينه النفسى -الذى رسمه «نجيب محفوظ»- يتصف بالانعزالية والأنانية.. وانعدام التكيف الاجتماعى والنفور من الصحبة والبخل الذى دفعه إلى الانزواء والتوحد بذاته بلا معارف أو أصدقاء.. وهو خارج المصلحة الحكومية لا يعرف إلا «قدرية» رفيقة درب الدعارة التى تماثله فى السن.. وتتسم بالترهل والبدانة.. كهلة نصف سوداء فى ضخامة بقرة مكتنزة تحمل فوق كاهلها نصف قرن من الابتذال والفحش.. ومنذ ساقته قدماه إليها لم ينحرف إلى سواها.. ومرت أعوام لم يبادلها سوى تحية القدوم وتحية الذهاب.. ورغم تدينه العميق علمته الشراب.. ثم تتطور العلاقة فلا يصبح بالنسبة لها مجرد زبون عابر.. ولا تصبح بالنسبة إليه مجرد عاهرة يطفئ فيها شهوته.. إن العلاقة ترتقى إلى ما يشبه الصداقة فتوثقت وداخلتها ألفة إنسانية.
وقد حرصت على التركيز على بعد مهم من أبعاد الرواية أراد تجسيده «نجيب محفوظ».. ألا وهو إبراز تلك الازدواجية التى يعانى منها «عثمان بيومى» فهو مؤمن بنفسه بلا حدود.. ولكنه يعتمد فى النهاية على الله ذى الجلال.. لذلك لا تفوته فريضة.. وخاصة صلاة الجمعة فى جامع «الحسين».. وكإيمان أهل حارته لم يكن يفرق بين الدين والدنيا.. فالدين للدنيا.. والدنيا للدين.. وجوهرة متألقة مثل درجة المدير العام ما هى إلا مقام مقدس فى الطريق اللانهائى.. وهو يذهب إلى «قدرية» متخفياً فى الظلام، حيث إنه ذو خلق ودين وسمعة طيبة يجب المحافظة عليها.. وهو يواظب على هذه الزيارة الأسبوعية سنوات طويلة حتى يصير كهلاً وأعزب بدرجة وكيل إدارة..
وفى ليلة.. حمله الليل -كالعادة الروتينية- إليها فى حجرتها العارية.. تفاجئه بالقرار العسكرى بإلغاء البغاء (وزارة إبراهيم عبدالهادى باشا 1949) وترفض أن تعطيه عنوان بيتها مؤكدة أنهن سيخضعن لرقابة مشددة.. وحينما يسألها عما ستفعل.. ترد بثقة أنها ستتزوج.. لم يبق لها إلا الزواج.. يشعر بوحدته وضياعه.. ويقرر الزواج بها.. وهو يترنح تحت تأثير السكر.. فلما أفاق فى الصباح فى فراشها بمنزلها أيقن هول ما أقدم عليه.. ما يلبث أن يقرر الابتعاد بها فى حى جديد.. ويستأجر شقة بروض الفرج.. ويلزمها بالحجاب باسم الحشمة فى الظاهر.. وفى الحقيقة خوفاً من أن تقع عليها عين زبون قديم أو حديث.. وينصحها بتجنب الاختلاط بالجيران.. وكان يخشى أن يقع خلاف بينها وبين إحدى الجارات فتنسى تحفظها وتنفجر براكين الفحش الكامنة فى أعماقها.
هكذا رأى «نجيب محفوظ» -وهو ما حاولت إبرازه وتجسيده والإلحاح عليه من خلال عدة مشاهد بالمسلسل- أن وظيفة النقاب -عندما كتب الرواية معبراً عن حال الناس فى الأربعينات- تتركز فى الإخفاء والتمويه والخداع الذى يستر العورات ولا يشى بماضٍ مشين لعاهرة تائبة، وهو إذاً كان حاله استثنائية خاصة، فالنساء فى ذلك الزمان كن سافرات لا يخجلن من سفورهن.. وثقافة الحلال والحرام لا تسيطر على الأدمغة.. والحياة جميلة والأضواء ساطعة والمباهج عميمة والفرح بالوجود يعلن عن نفسه فى جلاء وحبور..
(أدى دور «عثمان بيومى» بالمسلسل الفنان «أشرف عبدالباقى».. ولعبت دور «قدرية» الفنانة «سوسن بدر» وأخرجه «سيد طنطاوى»).