وكأنها على موعد مع شهر يناير، اندلعت احتجاجات كبيرة فى تونس مع مطلع شهر يناير الجارى، لتعيد إلى الذاكرة الاحتجاجات التى شهدتها عدة مدن تونسية (يناير 2016)، بعد انتحار الشاب رضا اليحياوى، عقب شطب اسمه من قائمة المعينين بوزارة التربية التونسية، ومن قبل احتضن شهر يناير نجاح الثورة التونسية التى أطاحت بزين العابدين بن على عام 2011. كالعادة كانت الأوضاع الاقتصادية المتردية -من غلاء وبطالة وإجراءات تقشّف اتخذتها الحكومة فى إطار ما أُطلق عليه قانون المالية- السبب المباشر فى اندلاع المظاهرات، تماماً مثلما كان الحال فى المظاهرات السابقة. فالأوجاع الاقتصادية تظل المحرك الأول لغضب الشعوب والمحرض الأبرز على التظاهر ضد الحكومات.
خلال الساعات القليلة الماضية تحولت مظاهرات الاحتجاج فى بعض المناطق إلى أعمال شغب، وهو أمر اتفق الغريمان السياسيان فى تونس (حزب النهضة وتحالف نداء تونس) على شجبه. وكما تعلم فإن حزب النهضة هو الممثل السياسى لجماعة الإخوان بتونس، فى حين يتشكل «تحالف نداء تونس» من أصحاب التوجه الليبرالى، ويقوده «قائد السبسى» الرئيس الحالى للجمهورية التونسية. اتفق الغريمان على شجب المظاهرات واتهام «الجبهة الشعبية التونسية» بإثارة الشارع وتحريض المواطنين على الشغب. وتضم الجبهة الشعبية خليطاً من التيارات السياسية الاشتراكية والثورية والدينية والليبرالية، وتقدم نفسها كممثل لثورة 2011.
نهضة «الغنوشى» ونداء «السبسى» أصدقاء وقت الشدة، غرماء وقت تقسيم المصالح. لم يستطِع أى من الطرفين اللذين توافقا على اقتسام السلطة تحقيق أى من آمال الشعب التونسى بعد الثورة، وقد بعث المواطن هناك بإنذار ورسالة شديدة اللهجة إلى الطرفين خلال مظاهرات 2016، لكنهما قفزا عليها، وبدآ فى تطبيق إجراءات تقشّف ورفع لأسعار السلع الأساسية بصورة أرهقت المواطن المرهق أصلاً. لست أدرى مَن يقف وراء نظرية «حلب جيب المواطن» التى أدت إلى اندلاع مظاهرات عديدة فى دول عدة، من بينها إيران والسودان والمغرب، وأخيراً تونس، تلك النظرية التى يعتمد أصحابها على فصل واحد فى كتاب الاقتصاد يتكون من مبحثين، المبحث الأول عنوانه «الضرائب»، والثانى «التخلص من الدعم»، وكلاهما يفضى إلى ترك المواطن فى الهواء الطلق، الفصول الأخرى فى كتاب الاقتصاد، مثل فصل الاستثمار، وتعظيم الموارد، وتطوير مصادر الدخل القومى وغيرها لا تشغل أصحاب هذه النظرية.
فى ظنّى أن حكام تونس، سواء من «النهضويين» أو «الندائيين» يُخطئون حين يتصورون أن الشارع هناك يتحرك بتحريض «الجبهة الشعبية». المواطن التونسى يتحرك بأوجاعه الاقتصادية ليس إلا. ولن يتوقف الشارع التونسى ولا غيره من شوارع العالم الثالث عن التحرّك حيناً بعد حين، حتى يشعر المواطن بتحسّن فى أحواله المعيشية. لقد أكد «حمة الهمامى»، زعيم حزب «الجبهة الشعبية»، أن المواطنين سيظلون فى الشارع، وستزيد وتيرة الاحتجاجات، حتى يسقط قانون المالية الجائر الذى يستهدف خبز التونسيين ويزيد معاناتهم. وأظن أن قوله صحيح. ليت الحكومات تفهم أنه ليس من العبقرية فى شىء أن تحل مشكلاتها من جيب المواطن، مقابل وعود تبذلها له بأنه سيجنى مقابل تضحياته الحالية مستقبلاً أفضل.. وهذا طبعاً لو عرف يعدى ويعيش للمستقبل!.