كل إدراك.. كل خطوة تعى أن الثقافة ليست «ترفاً» وأنها لا تخص أفراداً بعينهم.. كل خطوة باتجاه الوعى بما يمكن أن تحدثه الرواية.. القصيدة.. الفيلم.. قطعة النسيج فى وجدان الناس، هى خطوة باتجاه التنمية الرشيدة، ولا غرابة.. كان الدكتور زكى نجيب محمود، أستاذنا فى تمهيدى ماجستير قسم فلسفة، وكنا نحن جزءاً من طلبته «المشائين»، نصحبه سيراً على الأقدام، من حجرة الدرس إلى حيث بيته المطل على نيل جامعة القاهرة، دون أن ينقطع الدرس.. فى واحدة من المرات سار الحوار باتجاه العلاقة ما بين علم الجمال والسياسة.. أو بين ذلك الفرع الذى يضع قواعد النقد الفنى وبين رشادة الإنسان فيما يتخذه من مواقف تخص أمراً حياتياً مُعاشاً، كيف استطاع «شيخنا» فى العلم أن يصل بنا إلى ذلك الارتباط الوثيق ما بين «الوجدان» وتشكلاته وما يتأثر به، وبين مجمل ما يتخذه من مواقف فى الحياة؟ تلك كانت واحدة من المناقشات أو من الدروس العلمية التى لم ينمح أثرها رغم «عقود»، وتجارب تلتها.. ولعل هذا المعنى التقطته الوزيرة غادة والى ببساطة فى كلمتها الواعية أمام حشد المحتفلين بتوزيع جوائز أفرع الثقافة لمؤسسة ساويرس للتنمية، فى دورتها الثالثة عشرة، وهى الدورة التى غيب الرحيل عنها أمينة مجلس جائزة ساويرس الثقافية السيدة النبيلة «شمس الإتربى»، ومع ذلك كان حضور ما جسدته من معان نبيلة طاغياً حتى صارت الليلة ليلة فى محبة «شمس».. والوجدان الراقى، فى اختصار أرجو ألا يكون مخلاً، وحين وقف المهندس سميح ساويرس، وهو الذى تحمس وتبنى فكرة جوائز للثقافة منذ ثلاثة عشر عاماً، ليرحب بالفائزين وضيوفهم على مسرح الأوبرا الكبير، أحدث غياب شمس أثره، بحيث كدنا نحن الحضور أن نلمح «ما يمكن أن يكون قد ترقرق فى دواخله ودفعه لاختزال وقفته إلى دقائق محدودة لم يقو بعدها على الاسترسال».. على مدى السنوات الثلاث عشرة رسخت جوائز مؤسسة ساويرس من دورها، عبر دائرة نزيهة من المختصين فى أفرع الثقافة، وعبر مجلس للأمناء كان منه أستاذنا سلامة أحمد سلامة وأستاذنا محمد السيد سعيد، رحمهما الله وكان «قلبه» المحب والراعى تلك «الشمس» التى كان حضورها رغم الغياب درساً.. درساً لو وعاه القادرون على البذل والعطاء لأدركوا أن الباقى هو «المعنى»، حين تكلم الدكتور محمد أبوالغار نيابة عن مجلس أمناء جائزة ساويرس، قال إنه تعود فى كل دورة أن يتكلم عن الجائزة، وتطورها ونموها، لكنه هذه الدورة سوف يكون كلامه عن «شمس الإتربى» المصرية.. الوطنية، القيمة الإنسانية الرفيعة والنبيلة.
استطاعت «الجوائز الثقافية» لمؤسسة ساويرس أن تحافظ على مصداقيتها على مدى السنوات، وصارت محل «ثقة»، لأنها ومنذ ولدت كفكرة، تحاول ألا تفرط فى المعايير، وحين تلمح ما بين المحكمين هذا العام أسماء مثل المخرج داوود عبدالسيد والأستاذ نبيل عبدالفتاح والدكتورة هالة فؤاد وغيرهم ممن يعززون «المصداقية»، تحس ارتياحاً لمعنى الالتزام بالمعايير ونزاهتها، لكن يبقى الأهم أن هذه الجوائز، «الجوائز الثقافية»، شكلت مع جناح «التنمية» لنفس المؤسسة، الذى يعنى بالتنمية الاجتماعية والاقتصادية.. ثمة رابطة لا يمكن فصمها، بين وجدان الإنسان وقدرته على البناء، من هنا كان ذكاء الوزيرة غادة والى حين أشارت إلى أن مصر التى تحتفى فى الصباح بافتتاح مشروعات وطرق، وتحتفى فى المساء بالرواية والقصيدة، إنما ترسل رسالتها فى تكامل معنى «التنمية»... هذه هى الرؤية الواجب توافرها، التى لا بد أن نستحضرها طوال الوقت.
الثقافة ليست نقطة «زيت» منفصلة تعوم على طبق من المياه.. ولا هى ترفاً يخص جماعة بعينها.. اللحن والنص والفيلم واللوحة ليست «زوائد»، أو مكملات، حين تهم بالبناء.. إنها «الوقاية» التى هى خير من العلاج.. وواقعنا يشهد على أن الفراغ الذى تتركه فى وجدان البشر، «تعشش» ثعابين الموت فيه.. ووعى المؤسسات الخاصة بالمجتمع المدنى بهذه الرسالة لا بد أن نحتفى به.. وأتصور أن الدور الثقافى أو الجناح الثقافى لمؤسسة ساويرس الثقافية، أو «آل ساويرس» بات يتشكل من جوائز للرواية والقصة والشعر، علاوة على مهرجان للسينما ولد عفياً فى الجونة وجوائز للشعر العامى (جائزة أحمد فؤاد نجم)، إضافة إلى عدد من المنح الدراسية، وإسهامات فى جامعة زويل وبناء المدارس.. هذا التوجه ينبغى أن يكون قاطرة لتوجه يدفع آخرين، «لأن يغاروا»، ويمدوا يد العون لتقوية «جناح» لا غنى عنه.