أشم رائحة الهبد والرزع من على بعد! أستشعر أجواء التطاحن وأرى أمارات التصادم وأتوقع تصاعد الضغائن، وهذه ليست قدرات إبداعية، أو ملكات استشرافية بقدر ما هى دروس مستفادة وعبر مستقاة من سنوات سبع مضت.
أيام قليلة وتحل الذكرى السابعة لثورة يناير، الثورة الشعبية / المؤامرة الكونية، الربيع المصرى / الهدم الغربى، تضحيات وبطولات وانتصارات / أجندات ووجبات كنتاكى وعلاقات جنسية كاملة، أشرف شباب فى مصر/ عملاء وخونة ومتآمرون، وهلم جرا.
وقد جرى العرف على مدار السنوات الست الماضية أن تٌحيا ذكرى الثورة سنة بالاحتفال والاحتفاء، وأخرى بالتريث والتشكك، وثالثة بالاحتقان والاحتكاك، ورابعة بالغضب والفوران، وخامسة بالبكاء على الأطلال، وسادسة بعيد الشرطة والأبطال، وسابعة تهل علينا ونحن فى حيرة من أمرنا.
أمورنا وشئوننا وأحوالنا تعكس تضاؤل القدرة على استيعاب الفروق، وانكماش القابلية لهضم الاختلافات مع ضرورة تحويلها إلى خلافات، والسنوات التى تلت ثورة يناير أكبر دليل على ذلك، صحيح أن ما زرعه مشايخ الفتنة ومدعو الدين على مدار عقود طويلة مضت من رفض وتكريه وتبغيض وربما تكفير لبعضنا البعض لعب دوراً رئيسياً فى نشر ثقافة نبذ المختلفين وكره المعارضين وترديد «آمين» على كل ما يقوله «الأمير» سواء كان الشيخ المفوه، أو الرئيس المحنك، أو أمير الجماعة المفوض، إلا أن مناهجنا الدراسية وشاشاتنا التليفزيونية ساعدت هى الأخرى فى تمسيخ المجتمع وتقبيح العلاقات بين أبنائه.
«أبناء مبارك» و«شباب الإخوان» و«حزب الكنبة» والسلفيون بأطيافهم ومؤيدو الرئيس السيسى بأنواعهم والثوريون بدرجاتهم والمعارضون بمشتقاتهم والحقوقيون بانتماءاتهم وبقية المصريين الحائرين بين كل من سبق يهدرون الوقت ويستنزفون الجهد فى التناطح والتنابز والتنافس، والعجيب أن المحصلة النهائية صفر.
الصفر الكبير الذى يهيمن على أجوائنا فى العديد من مظاهر حياتنا يتجلى فى مثل هذا الوقت من كل عام، فهو موسم تكالب الجميع على فش الغل وطق الحنك والتنفيس عن أوجاع عام مضى فى وجوه بعضنا البعض، هذه الأجواء المشحونة دائماً والملتهبة أبداً على مدار سنوات ما بعد ثورة يناير تحتاج كتيبة كاملة متكاملة من علماء النفس والاجتماع والمنطق والفلسفة واللغة غير المؤدلجين لعمل دراسة معمقة عما ضرب المصريين من عوار فكرى وثقافى.
ثقافة اعتبار كل من لا يتطابق معنا فكرياً وأيديولوجياً وعقائدياً، بل ومظهرياً، خصماً وعدواً تضربنا فى مقتل، فلا لدينا حياة سياسية تسمح بالتعدد والتنوع والعمل الحزبى الحقيقى فى إطار القانون، ولا عندنا عقول تتسع لفهم ما يقوله الآخرون لانشغالنا الدائم بالتجهيز للإجهاز عليهم، وتستوى فى ذلك الأغلبية، الثوريون وناشدو التغيير ينظرون لكل من لا يتمسك بتلابيب الفكر الثورى باعتبارهم «خرفاناً» و«عبيداً»، والحقوقيون ينعتون من ينظر إليهم بتشكك وكأنهم نعاج ومنبطحون نابذون لحقوقهم الأساسية، ومؤيدو الرئيس يرون كل من ينتقد أو يعارض عدواً للدولة وخصيماً للاستقرار والتنمية، ومناصرو من تبقى من رموز سياسية معارضة على الساحة يعتبرون كل من يشكك فى قدرات رمزهم على إدارة شئون البلاد أو تدبر أمور العباد ذليلاً للسلطة وهكذا.
وهكذا تمر أيام الاحتفال / التأبين / إحياء /دفن ذكرى ثورة يناير، هبد كثير، تشكك عميق، تطاحن رهيب، تنابز شديد ولو ابتكر أحدهم اختراعاً لتوليد الطاقة من هذا الكم من السجال لتربعنا على عرش الدول المنتجة للطاقة فى الكوكب، أما العمل فهو شحيح، وأما الأخلاق ففى غيبوبة، وأما سعة الصدر فصفر، وأما الإيمان بأن الله خلق الأرض وما عليها فى أشكال مختلفة وقوالب متعددة وتوجهات متنوعة فقد اختلف الخبراء فى شأنه، فمنهم من يشير إلى أن الشعب قال «مافيش رغم إن عنده جوه»، ومنهم من أكد أنه «كان فيه وخلص»، وفريق ثالث أفتى بأن الاختلاف حرام والخلاف مكروه، وذلك مع هبوب نسمات الذكرى السابعة لثورة يناير.