ولأن الضرب على النقاط الضعيفة إحدى استراتيجيات الحروب العسكرية منها والنفسية جاءت الضربة من خلال أصحاب المنابر الإعلامية غير المؤهلين فى المطلق مهنياً، وسرعان ما نشب عراك إعلامى حول ما سمى تسريبات الـ«نيويورك تايمز»، داخلياً فريق سعى لإثبات فبركتها، مقابل محاولات أبواق إسطنبول المأجورة الدفع بمصداقيتها.. وكأن الحادث جزئى منفصل غير متصل باستراتيجية كلية تتعدد مآربها وتحمل تحت مظلتها خيوط مؤامرة -ما التنظيم الدولى فيها سوى أداة- وعلى قدر تشابك وترامى إحداثياتها داخلياً وإقليمياً ودولياً فهى واضحة.
إن تحليل مكيدة الـ«نيويورك تايمز» كان يستوجب الرجوع للوراء قليلاً والوقوف ملياً عند المقال المنشور فى نفس الصحيفة الشهر الماضى، الذى وَصفَت فيه مصر بالحليف المزعج (أى الذى بات خارج السيطرة)، أندرو ميلر، أهم الكتّاب المشاركين فى المقال، هو المدير السابق المختص بملف مصر فى مجلس الأمن القومى الأمريكى، والمحلل السابق للشئون المصرية فى الخارجية الأمريكية، وهذا يدل على أننا أمام فصل جديد من فصول الاستراتيجية الأمريكية الخبيثة، فـ«ميلر» وإن بدا بعيداً عن الموقع الرسمى إلا أنه محسوب على العقل الاستراتيجى الأمريكى ومعبر عنه، فقد دعا إدارته إلى التوقف عن وصف العلاقات المصرية الأمريكية بالشراكة الاستراتيجية التى عفى عليها الزمن (على حد قوله)، ولم يكتف بالإفصاح عن هذا التحول الدراماتيكى، بل حرض بقوة على ممارسة ابتزاز الدولة المصرية عبر تخفيض المساعدات الأمريكية والتى بالفعل شهدت اقتطاعات متوالية مصحوبة بذرائع واهية..
فى تحليل أسباب الدفع نحو حتمية إعادة صياغة العلاقات مع مصر نجد أن العقل الاستراتيجى المصرى قد أثبت على مدار نحو 4 سنوات تولى فيها «السيسى» رأس السلطة أن القرار المصرى بوصلته لا تخطئ الاستقلالية وقبلته مصوبة فقط نحو الحفاظ على الأمن القومى المصرى بإحداثياته المترامية دونما السماح بالعبث بتلك الاستقلالية، هذا رغم عظم الضغوط التى مورست لإشراك قوات أمريكية - إسرائيلية فى الحرب على الإرهاب داخلياً، ومن خلال إلحاح أمريكى على تدريب قوات مصرية!! وقد قوبلت برفض صلب.. أضف إلى استقلالية القرار أن الدور المصرى فى التحالف الدولى للحرب على الإرهاب بقيادة الولايات المتحدة لم يشمل تدخلاً عسكرياً فى سوريا عكس الرغبة الأمريكية - الإسرائيلية، بل اقتصر على دور سياسى داعم لوحدة مكونات الشعب السورى الذى يتبعه وحدة وتماسك مؤسسات الدولة.. كما هى السياسة تجاه الشأن اليمنى.. كذلك فإن تأمل الدور الحيوى الذى تلعبه مصر تجاه ليبيا فى لم شمل الفرقاء والحفاظ على هوية الدولة يعد حائط الصد أمام المساعى الأمريكية لتقسيم ليبيا الدولة.
إن أضفنا إلى كل هذا واقع العلاقات الاستراتيجية الحالية مع روسيا، الذى لا يروق لصانع السياسة الأمريكية، كما أشار تقرير «ميلر»، فإننا ندرك ما وراء وصفه لمصر بأنها لم تعد الدولة المهيمنة إقليمياً، القادرة على لعب الدور الذى ترغبه الولايات المتحدة.
هكذا كشف «ميلر» بجلاء عن مدى استقلالية القرار المصرى وحرص الإدارة المصرية على صيانة أمنها القومى وأمن أشقائها العرب دون التخلى عن ثوابت وقيم العقيدة المصرية، التى تمثل استراتيجية وطنية مخيبة لطموح الأطماع الأمريكية، لذا فقد لزم الانتقام، كما أوصى نفس التقرير، وباتت الرغبة الشرسة ملحة فى الرد على الإهانة التى صُفعت بها الدولة الأمريكية أمام العالم فى جلسة مجلس الأمن حول القدس على يد صانع القرار المصرى الذى سجل بعروبته المتأصلة سابقة لم تشهدها الإدارة الأمريكية من قبل فصيغت مكيدة التسريبات اليائسة، التى لم تخل من رسائل تهديد مباشرة وغير مباشرة للإدارة المصرية ولمصر الوطن، فالحديث عن نيل الدولة من المرشح الرئاسى السابق أحمد شفيق وإجباره على الانسحاب من السباق الانتخابى ليس له مدلول سوى التشكيك فى مشروعية «السيسى» المقبلة، التى باتت شبه مؤكدة عبر استطلاعات رأى تجريها مراكز متخصصة (نُشر بعضها فى وسائل إعلام أمريكية)، بل وربما ينسحب هذا على العملية الانتخابية برمتها ومن ثم تهديد الاستقرار السياسى مستقبلاً ثم الدفع نحو ضرب الصورة الذهنية التاريخية لمصر العروبة عبر اختلاق موقف من قضية القدس مغاير لواقع ملموس هو محاولة لخلعها من عمق إشكاليات شديدة التماس مع أمنها القومى.
وما هو أخطر الترويج زوراً بأن العقل المعلوماتى - الأمنى داخلياً منقسم على نفسه.
ما سبق هو محاولة بسيطة لقراءة جزء مما فى جعبة الولايات المتحدة تجاه مصر، فلن يهدأ العقل الأمريكى عن محاولات التطويع التى ستظل تقابل بالاستقلالية عبر قيادة متمثلة فى رئيس مرتكز على شعبية صلبة تدفع به نحو استكمال فترة رئاسية مقبلة. أما ما يحمله العقل الاستراتيجى المصرى تجاه ما قال «ميلر» فإنها شراكة استراتيجية عفى عليها الزمن، فأجزم أن العقل الأمريكى لن يستطيع استنتاج أو استيعاب ما هو قادم، فأنا شخصياً أشفق على الأمريكان جميعاً فهم قوم يرهقهم ويزعجهم أن تحدثهم عن التاريخ.