«أهلاً وسهلاً أكيد انت المصرى» قالها الرجل ذو الوجه الأحمر والشعر الأبيض مرحباً، ماداً يده مصافحاً: أنا عمر علوش.
كنت أنتظر الرئيس المشترك للإدارة الذاتية لمجلس الرقة المدنى فى مكتب مصطفى بالى، المتحدث باسم قوات سوريا الديمقراطية بمدينة عين عيسى بالشمال السورى، حظى الرجل الذى كنت ألتقيه للمرة الأولى باحترام وتبجيل واضح من كل الموجودين، بعد هذا اللقاء بلحظات كنا فى سيارة «دفع رباعى» تقطع المسافة من مدينة عين عيسى إلى مدينة تل الأبيض بسرعة كبيرة، يحكى بلا ملل حكايات الشمال السورى والمقاومة الكردية ومعارك الجيش السورى.. فى كل منطقة كان يهدئ من سرعته ليحدثنا عن المكان والبشر.. يعرف مواطنى الشمال السورى فرداً فرداً ويحفظ قصة كل حبة رمل فى الصحراء الشاسعة التى كنا نمر فى رحابها، لا أعلم لماذا تذكرت العالم المصرى الكبير جمال حمدان، وأنا أستمع حكايات علوش عن «تل أبيض والرقة وروج أفا».
كان «علوش» واحداً من مهندسى عملية دمج الأعراق فى الشمال السورى وصهرها فى بوتقة واحدة، معه ترى العرب والكرد والتركمان والسوريان وكافة الأقليات السورية منصهرة فى أول مجلس مشترك أسسه بمدينة تل أبيض لجمع شتات المجتمع السورى.
شكل الرجل مجلساً وقضاء لكافة العشائر والأعراق واستطاع بمهارته الفائقة والقبول الذى حظى به أن يحافظ على الموزاييك السورى متماسكاً.
كان الرجل سياسياً بارعاً مناوراً خطيراً، أفضل من يستخدم العصا والجزرة يقدم هذه ويؤخر تلك فى دقة لا تخطئ...حضرت معه جلسة بين عدد من القبائل العربية لحسم خلاف حول مرشح فى انتخابات محلية، أدار الرجل الخلاف والجلسة بخبرة ستين عاماً من النضال وبحنكة سياسية مذهلة.. يومها أدركت أننى أمام رئيس سوريا المستقبلى والحل المثالى للأزمة، وهو ما قلته للرجل ليأتى الرد سريعاً وضاحكاً باندهاش: من قال لك ذلك؟ قلت: لا أحد، أراك مؤهلاً لقيادة سوريا، وبعد صمت طويل استدرك قائلاً: «تماماً كما قلت فى إحدى المرات طرحوا علىّ الأمر كأحد الحلول للأزمة السورية».
امتلك علوش علاقات عميقة ومتميزة مع عدد كبير من المسئولين الأمريكيين السياسيين منهم والعسكريين، مما جعل منه رقماً هاماً فى العلاقة بين الأكراد والإدارة الأمريكية، وواحداً من ثلاثة أو أربعة مسئولين أكراد يديرون هذا الملف الغامض الذى يحتوى على الكثير من الأسرار، خاصة أن الرجل كان يحظى بثقة أمريكية، مكنته أن يكون صاحب قرار وصوت مسموع داخل مجلس سوريا الديمقراطى، لكنه كان ممن يفضلون العمل فى صمت وبعيداً عن وسائل الإعلام.
كان علوش المهندس الحقيقى لصفقة إخراج الدواعش من الرقة، هو من أدار الاتصالات بين المسئولين الأمريكان وقادة التنظيم وشيوخ العشائر، وهى الصفقة التى بمقتضاها أخرجت عناصر داعش من الرقة وسلمت المدينة بعد قتال مرير للقوات الكردية فى واقعة لا تزال تثير الجدل والتساؤلات والتى يملك وحده الإجابة عنها.
كنت على موعد معه ليروى لى تفاصيل صفقة «داعش» لكن قاتلاً مجهولاً هاجمه فى منزله بمدينة تل أبيض وأنهى حياة واحد من أهم المناضلين الأكراد السوريين، مغلقاً واحداً من أخطر ملفات الأزمة السورية.
كان «علوش» يعرف الكثير، ويملك الكثير من الأسرار، وعلى مدار سنوات نضاله الطويلة أدار الكثير من الملفات، ما يجعله صيداً ثميناً وهدفاً غالياً، ويبقى السؤال: من قتل «علوش»؟ من قتل مستقبل سوريا؟