دائمًا ما كانت تمثل لي مناسبة «عيد الميلاد» علامة استفهام كبرى؟ فكيف يحتفل شخص بانقضاء عام من عمره؟ ألا يحزن على عامه الذي يودعه؟ ألم يشعر بتقصير تجاه دوره يستوجب النظر بأسى للعام المنصرم وتوجس للعام المقبل؟ ولكني وجدت في أعياد الميلاد مناسبة للاحتفال والاحتفاء بأناس تركوا بصمتهم في الحياة، وقدموا رسالتهم على أكمل وجه، وشاركوا بكل ما قوتهم وطاقتهم من أجل إسهام الحياة العامة وإسعاد الآخرين، هؤلاء أناس لم يمروا في حياتنا مجرد مرور الكرام، ولكنهم نحتوا بإسهاماتهم بصمات خالدة داخل روحنا.. وعلى رأس هؤلاء.. الفنان علي الحجار.
ما الذي قد يريده مطرب مثل علي الحجار أكثر مما قدمه؟ طالما جال بخاطري هذا التساؤل.. كيف لفنان قدّمه للجمهور الملحن العظيم بليغ حمدي أن يكون متطلعًا لمزيد من النجاح؟ أليس ظهوره على يد هذا الموسيقار نجاحا في حد ذاته؟ اليوم وبعد 40 عاما من الاحتراف ألم يكتف من النجاح؟
40 عامًا هي مدة احتراف علي الحجار في المجال الفني، شق خلالها طريقه بين الصعاب، ودوّن اسمه جوار عظماء الفن والكلمة واللحن أمثال عبدالرحمن الأبنودي وصلاح جاهين وسيد حجاب وأحمد فؤاد نجم، وعمار الشريعي وفاروق الشرنوبي وعمر خيرت وبليغ حمدي، وغيرهم، بل كان القاسم المشترك دائمًا لأعمال دومًا ستظل خالدة.
«الحجار» نهل من الفن الكثير وكأنه خُلق ليكون فنانًا فقط، فموهبته في الرسم والتصوير أهلته ليدرس الفنون الجميلة، ثم تخرج فيها يبحث عن آذان تسمع حنجرته الذهبية، إلى أن أصبح من أبرز مطربي جيله وحقق مبيعات لم يحققها شريط غنائي آنذاك. لم يكتف بالغناء والرسم فقط، بل بحث عن التمثيل أيضًا ووقف أمام الكاميرات وفي مواجهة الجمهور على خشبة المسرح، وساهم في تقديم نوع مختلف من الدراما الممزوجة بالأغنيات القصيرة التي زادت المعنى صدقًا ووضوحًا. هل تتخيل عزيزي القارئ أعمال: «غوايش – ذئاب الجبل – بوابة الحلواني – أبو العلا البشري – حدائق الشيطان» بدون صوت الحجار؟ ليس هذا فقط، بل كان من المؤمنين بالمسرح الغنائي فقدم رائعة بيرم التونسي «ليلة من ألف ليلة» والتي أعاد تقديمها الفنان يحيى الفخراني على المسرح القومي مؤخرًا.
ما الذي يريده علي الحجار أكثر مما حققه؟ ألم يكفيه أنه رفيق وجدان جيل كامل من العاشقين له ولموهبته؟ ألم يكفيه أن صوته الغنائي في تترات المسلسلات ظل محفورًا داخل الأذهان والقلوب حتى اليوم؟ فأنا أحد هؤلاء الذين يسمعون التتر ثم يغيرون المحطة، وكأن الاستماع إلى علي الحجار أصبح واجبًا فنيًا على كل من يريد الارتقاء بذوقه وروحه.
موعد الفنان الشهري مع جمهوره على مسرح ساقية الصاوي، خلق حالة من الألفة والمودة بين جيل نشأ على أنغام «عارفة – على قد ما حبينا – ريشة ويا ريشة – أنا مش عابر سبيل – أعذريني – يا موجة يا زرقاء – في قلب الليل» وبين فنان احترم جمهوره على مدار مسيرته العريقة والممتدة بإذن الله؛ فنجح وحجز مكانًا في القمة.
كثيرًا ما أجد أناس من جمهور الحجار يصطحبون أطفالهم إلى الحفلات، وكأن حب الحنجرة الذهبية يوّرث من جيل إلى آخر؛ في محاولة للهروب من التدني الذي أصاب الموسيقى والكلمة والكليب إلا ما رحم ربي، فقليلون هم من يؤتمنوا على رسالة الفن ويقدمونها بمنتهى الصدق.. قليلون هم من على شاكلة علي الحجار.
في تمام التاسعة مساءً من يوم 28 مارس الماضي، دخل الفنان علي الحجار المسرح وبعد أغنية الافتتاح، بدأت الفرقة الموسيقية في تهنئته على طريقتها الخاصة وقدمت أغنية عيد الميلاد (هابي بيرث داي) ليقف كل حضور المسرح مرددين نفس الأغنية، في مناخ خيّمت السعادة عليه، هذا المشهد الفريد لن تجده سوى بين علي الحجار وجمهوره.. فهذا الفنان اعتاد دائمًا مشاركة جماهيره في أعياد ميلادهم على نفس المسرح؛ ما جعل كل فرد من جمهور الحجار يشعر وكأنه مدينًا لهذا الفنان بالبهجة والمشاركة والسعادة.
نوفمبر الماضي أصدر علي الحجار ألبومه الجديد «ما تاخدي بالك»، وأجاب على السؤال المُحير بشأن طموحه في الفن، فالحجار لم يشبع حتى الآن، بل تعامل مع ألبومه الأخير وكأنه ألبومه الأول؛ حِرصًا منه على تقديم كل ما هو قيّم وفني.
قدّم ألبومًا مختلفًا حيث تعاون مع فريق عمل من الشباب مثل هيثم توفيق وأحمد حمدي رءوف وأحمد شعتوت وسالم الشهباني ومحمد حمدي رءوف وغيرهم؛ في إشارة إلى إيمانه الراسخ بالشباب الذين فتح لهم مسرحه على ساقية الصاوي ليقدمون مواهبهم من العزف والغناء وإلقاء الشعِر، ليس هذا وحسب بل تعهد أيضًا بأن ينتج مسرحية غنائية للمواهب الشابة التي يقدمها على مسرحه. الشاب علي الحجار قدّمه للجمهور بليغ حمدي منذ 40 عامًا، واليوم يقدم هذا الشاب شبابًا آخرين للجمهور بروح الحماس التي لم تنطفئ داخله.
ظهر الحجار للساحة الفنية ليعاصر أجيال عديدة من مطربي الثمانينات والتسعينيات والألفية الجديدة، ولكنه بينهم ظل ظاهرًا شامخًا محتفظًا بقيمته، لم يتاجر أو يتنازل أو يحابي أحد، ظل حجّارًا كما أوصاه والده الفنان إبراهيم الحجار بأن يقدم فنًا يقدس البقاء ولا يعرف الموت ويحترم المُستمع ويرتقي بذوقه.
سار الحجار على العهد مع والده، منذ أول أعماله «على قد ما حبينا» عام 1977 حتى ألبوم «ماتاخدي بالك» عام 2017، حتى آخر ألبوماته حرص من خلاله على تقديم ألوانًا موسيقية مختلفة تحمل بين طياتها رسائل فنية وثقافية الساحة الفنية في حاجة لها. فأغنية «يا لدانة» كانت رسالة لإحياء التراث البورسعيدي الذي ربما لم يأخذ حقه خارج الإقليم حتى الآن؛ وهذه المحاولة ليست هيّنة فجيل كامل من الشباب لا يعلم عن بورسعيد شيئًا سوى حادث مباراة الأهلي والمصري الدامية، وهنا تكمن قيمة الفن لإعادة إصلاح ما أفسدته الحياة السياسية. مثلما قدم أغنية «جبلي» من التراث الصعيدي القريب إلى قلوبنا، فبذُكر اسم علي الحجار؛ حتمًا تُذكر الأغاني الصعيدية التي برع في أدائها مُستغلا قدراته الصوتية العريضة مثل: «ذئاب الجبل – الرحايا – حدائق الشيطان – الليل وآخره»، وها قد عاد في ألبومه الأخير بأغنية من التراث الصعيدي بمشاركة رمزية للفنانة الشعبية الأصيلة جمالات شيحة؛ فسعى الحجار في أربع دقائق فقط لتسليط الضوء وواحدة من أبطال الفن الشعبي في مصر، وربما جيل الشباب الحالي لم يكن يعرف شيئًا عن جمالات شيحة وخضرة محمد خضر والست روح الفؤاد، والعديد من عمالقة هذا اللون الأصيل.
علي الحجار كان خير رسول لمئات الرسائل الفنية والإنسانية العظيمة، بداية من التنوع في القوالب الموسيقية، مرورًا بتسليط الضوء على جيل كامل من شباب الموهوبين، وصولًا لاحترام حق الجمهور في فن صادق يسمو بالروح والوجدان. ليس غريبًا أن يستمر علي الحجار في نجاحه لمدة 40 عامًا، فهذه هي النتيجة الطبيعية لكل من احترم فنّه وجمهوره؛ فوجد مردود الاحترام محبة وتقديرًا.. أدام الله الفن نعمة تكسر قيود الجهل والتطرف والتدني.. أدام الله فن علي الحجار.. كل سنة ونحن بك طيبون يا أستاذ.