عمر الحكيم.. حكاية «معمارى تائه من السودان إلى القاهرة» بحثاً عن «تقدير وعمل»
الدكتور عمر الحكيم
حالة من الصدمة تملكت الكثيرين ممن قرأوا قصة العثور على الدكتور عمر الحكيم، عبر مواقع التواصل، وهو المعمارى الفذ، صاحب الأبحاث والأفكار، الذى يسير هائماً على وجهه فى شوارع القاهرة، حاملاً كتابه «العمارة النوبية» وأوراقه الشخصية، فى حالة صحية سيئة: «إزاى واحد بالأهمية دى يوصل للمرحلة دى؟» سؤال بدا محيراً للكثيرين، لتبدأ من بعده التكهنات. «الوطن» حاولت حل اللغز عبر تتبع قصة الأستاذ الجامعى المخضرم، والمعمارى الفذ الدكتور عمر، نجل المهندس المصرى الشهير محمود الحكيم، الذى صمم عمارة متحف النوبة المصرى، المشهور عالمياً بتصميمه الاستثنائى.
«الوطن» ترصد رحلة صاحب كتاب «العمارة النوبية» من فيلا المعادى إلى لوكاندة وسط البلد
بدأت القصة بظروف عائلية مضطربة، بدأت مع انفصاله عن زوجته الأمريكية من أصل سويدى فى مرحلة مبكرة من حياته، حيث سافرت بصحبة ابنهما الوحيد إلى الخارج لتربيته هناك، مع ذلك عاش الدكتور حياة رغدة داخل الفيلا الخاصة بهم فى منطقة المعادى، بصحبة عائلته، أمه وشقيقه، لكن الأمور تطورت مرة أخرى بشكل درامى، حيث توفيت الوالدة، وجرى بيع الفيلا، وسافر كل من الابن والشقيق إلى فرنسا، فيما بقى الدكتور عمر فى القاهرة، حيث انتقل إلى الإقامة بـ«لوكاندة» متواضعة، فى منطقة وسط البلد، لتتدهور من بعدها أحواله كثيراً.
الكثير من المحاولات بذلها الابن من أجل إيداع والده فى دار للمسنين، حيث نجح فى نقله أخيراً إلى إحداها، خلال زيارته الأخيرة لمصر، بدافع توفير الرعاية والعناية، حيث لا يتوافر أى منهما له فى «اللوكاندة» إلا أنه سارع بتركها والعودة مرة أخرى إلى وسط البلد، حيث تمت مشاهدته مرات عديدة من جانب رواد المنطقة. لم يتوقف الرجل يوماً عن محاولة الاستغاثة وتوصيل رسائله المبهمة، يتذكر المصور الشاب عمرو ياسر حين قابله فى بداية شهر أبريل عام 2016، حيث التقط له مجموعة من الصور الفوتوغرافية الاحترافية التى قام بنشرها لاحقاً عبر موقع التواصل الاجتماعى «فيس بوك»، وقتها حاول «الحكيم» أن يخبره شيئاً، يقول «عمرو»: «كان موجوداً فى وسط البلد عند جروبى، كان لسه بيتكلم لكن الكلام مقطع ومش واضح 100%، لكنه كان بيضحك ومنطلق، وكتب لى ورقة عن حاجات فى ألمانيا، لكن الخط كان مهزوز وما قدرتش أفهم هو عاوز يقول إيه» ما زال عمرو يحتفظ بالورقة، لكنه بدا متفاجئاً للغاية حين رأى الصور الأخيرة للمعمارى الشغوف «مش فاهم وصل للحالة دى إزاى؟ الراجل كان واعى وقت ما قابلته واللى يركز معاه كويس يفهم هو عاوز إيه».
شهدت قصة الدكتور عمر تطوراً درامياً كبيراً نهاية شهر فبراير الماضى، حين تلقت صفحة «أطفال مفقودة» على صفحة التواصل الاجتماعى، فيس بوك، بلاغاً من شاب سودانى يفيد بوجود الدكتور عمر فى السودان، بحالة صحية صعبة، تتذكر إيمان محمد، أدمن الصفحة، والتى تلقت البلاغ وقتها ملابسات القصة قائلة: «كانوا عاوزين حد يتعرف عليه ويوصله لأهله، كان معاه جواز سفر وقالوا إنه بيعانى من ألزهايمر وجفاف شديد، نتيجة إنه فضل يومين بدون أكل أو شرب فى الشارع»، هكذا تم إيداعه مستشفى وقام قسم الشرطة بإبلاغ السفارة المصرية «فى الفترة دى قريبته اتصلت وقالت إنهم تواصلوا مع السفارة» المعمارى الذى غادر مصر إلى السودان على متن «أوتوبيس» عاد أيضاً على متن «طائرة» حيث أرسلته الطائرة إلى مصر، ليحدث مزيد من التطورات الدرامية، وتفاجأ «إيمان» التى اعتقدت أن القصة انتهت نهاية سعيدة بصوره تعود لتنتشر عبر مواقع التواصل الاجتماعى من جديد تائهاً فى شوارع القاهرة، حيث عثر عليه الصحفى الشاب مينا صلاح، لكن هذه المرة تدخلت عدة جهات لإنقاذ الموقف، من بينهم وزير النقل السابق هانى ضاحى، واللواء هشام أبوسنة، رئيس هيئة موانئ البحر الأحمر مع المهندس عمرو الحكيم من قلب النقابة الفرعية بمدينة نصر، حيث تم التكفل بنقله لدار رعاية، وعلاجه، والتكفل بكافة مصاريفه وإعاشته. «الوطن» حاولت زيارة الدكتور عمر فى دار «نور الصباح» التى يعيش بها حالياً، إلا أن مديرة الدار أعلنت رفضها الكامل لأى زيارات له، قائلة: «بنت عم والده زارته وماعرفهاش، الدكتور فى حالة هياج، الموضوع انتهى وقصة الدكتور انتهت عند هذا الحد». لم يكن كتاب «عمارة النوبة» الذى تم الاحتفاء به، محلياً وعالمياً، هو الكتاب الوحيد له، حيث يعد الدكتور عمر الحكيم أحد تلامذة رائد العمارة الراحل حسن فتحى، علاقة لم تتوقف عند حدود التعلم، بل دفعته لتأليف كتاب فى اللغة الإنجليزية بعنوان «حوارات مع الأستاذ» تتضمن الكثير من الأسرار والأفكار التى لم تطرح من قبل، تمت ترجمته إلى اللغة العربية، إلا أن كلاً من الكتاب وترجمته ما زالا قيد «المخطوطة»، حيث لم ير أى منهما النور بعد.
واجه إصرار عائلته على إيداعه «دار مسنين» بالهروب لـ«نشر أفكاره».. ويسعى للعودة إلى التدريس لطلبة الدراسات العليا رغم ظرفه الصحى المتأخر
يعد «العمارة النوبية» واحدة من أهم التجارب، التى وثقت لبيوت النوبة، فى واحدة من المرات النادرة، التى جرى خلالها التوثيق لتلك النوعية من العمارة، بدأها المهندس عمر الحكيم، بينما كان طالباً بقسم العمارة، عند بناء السد العالى، فسافر آنذاك مع شقيقه شريف، إلى النوبة فى رحلة من مالهما الخاص، متنقلين على الأقدام فى رحلتهما، التى امتدت نحو 300 كيلومتر بين أسوان وأبوسمبل حيث باتا بمنازل من دعاهما من الأهالى.
روح مغامرة لم تفارق المعمارى البالغ من العمر 78 عاماً، بدأها حين كان يدرس فى الجامعة، وواصل البحث عن شغفه حتى عقب تدهور أحواله، قصة تحكى الدكتورة نجية عبدالمغنى، أستاذة الهندسة، التى تشرح فى كل مرة تزور الدكتور عمر علاقتها به «إحنا أقارب من الدرجة الثانية، والدتى بنت عم والده، يعنى أنا فى مقام بنت عمته»، تروى الكثير من التفاصيل عن المعمارى الذى صمم عشرات الفيلات والقرى، «له عشرات الأعمال التى تم تنفيذها بالفعل فى المقطم والغردقة وعشرات المناطق والمشاريع»
حالته الصحية الصعبة، ورغبته العارمة فى استكمال مسيرته العلمية جعلت الأمر مستحيلاً «كان بيقولى عاوز أرجع أدرس فى جامعة القاهرة لطلبة الدراسات لعليا، أو أسافر السعودية أو السودان أدرس للطلبة هناك» حلم اقتنعت به أستاذة الهندسة التى سارعت لاختبار قدراته مقارنة بمظهره المنهك، فقامت بإعطائه ورقة «طلبت منه يصمم فيلا، وفعلاً بدأ يرسم ويحط التصميم ويسألنى عن تفاصيل كتيرة متعلقة بالموقع وخلافه».
بين رغبة ابنه فى توفير رعاية كاملة له بإحدى دور المسنين وبين رغبة المهندس فى استكمال عمله، واصل الهروب من دار بعد أخرى، زارته «نجية» عقب إيداعه فى دار المسنين الأخيرة، لكنها تروى التجربة «روحت له ما عرفنيش، كان معايا زوجة ابنى وحفيدتى، كنت عاوزة أحسسه بجو أسرى، لكن ممكن يكون الإرهاق السبب».
فحوصات تجرى على قدم وساق «لم يتم تشخيصه من قبل بألزهايمر، حالياً يتم عمل عدد من التحاليل والفحوصات له فى الدار الجديدة» تتمنى المهندسة المخضرمة لو أن حالته الصحية تسمح له بمعاودة العمل والتدريس، مشيرة إلى أن حالة التيه المستمرة له ما هى إلا بحث عن شغفه وتخصصه الأثير فى الهندسة، «عنده كنوز لسة ما طلعتش، وكتابه اللى ما تنشرش عن حواراته مع حسن فتحى، مكتوب باللغتين العربية والإنجليزية لو اتنشر كفيل يعيّشه لآخر حياته من إيرادات الكتاب».
«الحكيم» خلال لقائه بنقيب المهندسين
وخلال لقائه بنقيب مهندسى القاهرة
كتابه «العمارة النوبية»