صانع «الستر» من أعواد البوص.. «سدد الغاب» أسطح وأبواب للفقراء
أحد العمال أثناء صنع «سدد الغاب»
تتراص أعواد البوص جنباً إلى جنب، متشابكة ببعضها البعض بخيوط وأربطة، تزيد من متانتها، أحجام كبيرة وأخرى صغيرة، كلها تتجمع على أطراف بحيرة إدكو، من خلفها يظهر أصوات حفيف أوراق الشجر، لا ينتهى، هنا ورش صناع سدد الغاب أو «البوص» تستقر على شاطئ البحيرة، يعملون بدأب شديد، رجالاً ونساء، طيلة النهار لإنهاء أكبر قدر من الأمتار التى تصلح لستر الفقراء، حيث تستخدم فى صناعة أسقف المنازل المبنية بالطوب اللبِّن فى القرى الفقيرة والأبواب، وأعشاش وحظائر المواشى. من البوص والخوص الذى ينتشر داخل مياه البحيرة، يستبدل هؤلاء من صناع السدد أسياخ الحديد الصلب، لصناعة الأسقف، ويستبدلون بها الأخشاب لصناعة الأبواب: «الحديد غالى والخشب أغلى والناس هنا على قد حالها»، يقول محمد سالم، صانع السدد الذى ورث تلك المهنة عن والده، يعمل بها منذ طفولته طيلة 20 عاماً.
يعمل «سالم» على جمع ألياف البوص أو الغاب، ويستخدم نوعين من البوص، «الريحى»، والبوص العادى، والريحى وهو الأفضل جودة وأكثر متانة، يخرج من الأراضى الزراعية يكون على أطراف المساحة المزروعة، لا يكون فى مياه كثيفة، عكس البوص العادى الذى يخرج من البحيرة ويكون مشبعاً بالمياه ونبت وسط مياه كثيفة. وتأتى الخطوة الثانية حيث يقوم «سالم» بتقشير ذلك البوص، ثم تجميعه فى صفوف على هذا اللوح الخشبى الموجود أمامه، وربطه ببعضه البعض بعدما يغزل حوله خيوطاً بلاستيكية، وقصاقيص الأقمشة يشتريها من مخلفات المصانع من العاشر من رمضان والمدن الصناعية، حيث يعقد تلك الأعوام من البوص ببعضها البعض باستخدام تلك الحبال والقصاقيص.
«سالم»: «الخشب غالى والحديد أغلى والناس هنا على قد حالها.. والصنعة أصبحت تقاوم الاندثار»
يتذكر «سالم» قديماً حينما كانت تلك الصنعة غير مكلفة، ولكن الآن ومع الغلاء أصبحت تقاوم الاندثار، فكل شىء حتى بواقى المصانع من قصاقيص الأقمشة والخيوط أصبحت أغلى من السابق، ويقول إن عمر تلك المهنة يمتد لأكثر من 100 عام، وقديماً فى الصعيد والريف لم يكن هناك سوى منازل وبنايات من الطوب اللبن، لذلك كان مزدهرة للغاية وموجودة على كل بحيرة وكل مصرف زراعى، ولكن الآن مع دخول الحديد والأسمنت أصبحت قبلة للفقراء فقط. «سالم» الحاصل على دبلوم صنايع ومعه فى الورش زملاء آخرون حاصلون على شهادات جامعية كبيرة، ولكنهم ورثوا تلك المهنة عن آبائهم، راتبه باليومية، حيث يحصل على 60 جنيهاً فى اليوم الواحد، وينتج من 40:30 متراً، ويبيع المتر بنحو 10 جنيهات، ويقبل على شرائها تجار من ليبيا والسودان ومن الصعيد لشراء تلك الأمتار، ويعمل فى ورشته هو ووالده وأشقاؤه وأولاد أعمامه.
دائماً تلك المهنة، بحسب «سالم»، ملتصقة بالبحيرات والمسطحات المائية، ليكونوا على مقربة من منبع ذلك البوص الذى ينمو فيها، فلا يزرع ذلك البوص ولكن ينمو داخل المياه الراكدة دون تدخل بشرى، ولكن حتى ذلك أصبح أزمة يواجهونها، حيث تعمل الكراكات والجرافات الخاصة بالمحافظة على اقتلاع ذلك البوص من أجل تطهير البحيرة وتعميقها، وهو ما يضطرهم لشرائه من المحافظات الأخرى ككفر الشيخ والإسكندرية وغيرهما: «ده مصدر رزقى الوحيد هروح فين؟!»، مشيراً إلى أن ورشته يعمل بها أكثر من 25 فرداً يقتاتون منها لقمة عيشهم: «فيه 25 أسرة بتاكل من ورا البوص ده».
لا تستخدم سدد الغاب «البوص» فى أسقف الفقراء وحدها، ولكن حسب سالم، تستخدم فى «تكعيبة العنب»، ومزارع البرتقال، والعشش التى توضع على الشواطئ فى المدن السياحية، ولكن ذلك الإنتاج يكون له نوع مختلف ومواصفات خاصة، ولكن بامتعاض يقول إن المهنة بدأت تنقرض وتندثر.