«شبراخيت».. مدينة العلماء والسحَرة و«البيضة والحجر»
أطفال يلعبون أعلى كوبرى المدينة
ممر ضيق مملوء بالحفر والالتواءات، يشطر الزراعات نصفين، يضج بعربات قديمة ومتهالكة تعود صناعتها لعقود مضت، تنقل الأهالى بين القرى المختلفة، فى نهايته تستقر مدينة «شبراخيت» وقراها المنتشرة شرق محافظة البحيرة، هنا المدينة التى شهدت مولد الإمام المجدد محمد عبده، ومسقط رأس الإمام محمد الخراشى، أول شيخ للأزهر، وملتقى الدجالين والسحرة والمشعوذين، هنا سقطت دولة العثمانيين والمماليك فى مصر، وانتصر نابليون بونابرت وحملته فى موقعة دارت رحاها على تلك الأرض، وهنا أيضاً قِبلة التائهين المعلقة قلوبهم بالعالم الآخر، والقدرات الخارقة لتنفيذ أحلامهم، هنا سقطت عن الكبار عباءة السلطة، حيث استقبلت تلك المدينة الفقيرة التى تضج بالأزمات، وزراء وأثرياء وشخصيات عامة ولاعبى كرة قدم، انحنوا أمام شيبة رجل عجوز يزعم امتلاكه لسر ذلك العالم الخفى.
مسقط رأس إمام التجديد محمد عبده وتوفيق الحكيم وأول شيوخ الأزهر.. وقبلة الدجالين والمشعوذين أيضاً
«شبراخيت» الاسم الذى سطر فى كتب التاريخ ملتصقاً بمعركة حربية كبرى، ومولد عدد كبير من مشايخ الأزهر وعلمائه، ومسقط رأس إمام التجديد فى عصره، ذاع صيتها كمقر للاعبين «بالبيضة والحجر»، بعدما تحولت قبل عقود لمستقر لهم، وأصبحت قبلة لكل راغب فى حل أزمته ومشكلته بالطريق السهل عن طريق السحر والشعوذة.. «الوطن» زارت مدينة شبراخيت لترصد تاريخ انتشار السحر فى المدينة ومنبعه.
العمدة «زقزوق»: أميّة الناس سبب انتشار الدجالين هنا.. ولو شاب هيتجوز لازم يروح لـ«شيخ من دول» يأكَّله ويديه فلوس لاحسن فرحه يبوظ
وسط الزراعات منزل أنيق يليق باسم عمدة قرية «أبوالسحماء» التابعة لشبراخيت، وفى ساحة المنزل الكبيرة، التى افترشت بالكنب الإسطنبولى، يجلس الرجل العجوز ذو الجسد الضخم يستقبل ضيوفه، وأمام كراسة يدون فيها حساباته البسيطة لأرضه وما يستجد من مطالب أهل القرية، المهندس أحمد ممدوح زقزوق، الذى ترك القاهرة وأتى ليجلس على كرسى والده وأجداده بعد وفاة شقيقه، لا يؤمن بالسحر وقدرته على حل كل أزمات البشر، ولا تستقيم له تلك السمعة التى أخذتها مدينة شبراخيت التابعة لها قريته الصغيرة.
الرجل العجوز، الذى يجلس على كرسى العُمدية منذ عشر سنوات، يحاول استعادة ما تبقى من ذاكرته عمن كان مسقط رأسهم فى مدينته، ويحصى «زقزوق» على يده العلماء والمشايخ الذين خرجوا من شبراخيت بحماس مفرط، ويقول إن الإمام محمد عبده المجدد من شبراخيت، وليس وحده، الشيخ محمد الخراشى، أول إمام للأزهر، من قرية أبوخراش التابعة لمركز ومدينة شبراخيت، والشيخ عبدالحميد كشك، والشيخ شلتوت والإمام الغزالى، وتوفيق الحكيم، بخلاف الكثير من العلماء الأفاضل.
يقول العمدة إن المدينة بها رابع أقدم معهد أزهرى على مستوى الجمهورية، معهد شبراخيت، بعد جامع الأزهر بالقاهرة ثم الأحمدى بطنطا، ثم معهد دمنهور، ورابعهم من حيث تاريخ التأسيس يستقر فى شبراخيت، كل هذا يدل على أن المدينة ليست مكان جهل ودجل، ولكن تحولها كان مصدره هو بحث البعض على أكل العيش من خلال السحر الذى أصبح وظيفة لبعضهم، كونوا منها ثروة كبرى وتجارة يحميها الكثيرون من «كبار القرى» الذين يستفيدون من ضخ الأموال لأولئك السحرة والمشعوذين.
«ناصر»: خطبة للشيخ «كشك» كانت سبباً فى انتشار سمعة «محلة بشر» بالسحر والشعوذة.. فأصبح أهلها مثل «سحرة موسى»
«زقزوق» الذى عمل 30 عاماً خبيراً هندسياً فى إحدى المحاكم بالإسكندرية، قبل أن يجلس على كرسى العُمدية، ظل طيلة الحوار يقول إنه لا يقتنع بفاعلية السحرة، ويروى أنه وقع فى براثن «ساحرة» بلدياته، سيدة ذاع صيتها داخل القرية بأنها تشفى «المس الشيطانى».
أحضرها العمدة لعلاج فتاة من عائلته بالإسكندرية، حيث رضخ لمطالبة أسرته وقناعتهم بجدوى السحر، ولم يجد مفراً من طلب تلك السيدة ليلتقيها ويقص عليها أزمة قريبته، كانت قناعة عائلته أنها مصابة بمس من جان، وبالفعل جاءت السيدة ولكنها خرت أمامه معترفة: «أنت العمدة أنا ماقدرش أضحك عليك ده أكل عيش وضحك على الدقون».
يؤمن «زقزوق» أن كل سحرة قريته وما يجاورها من قرى شبراخيت دجالون، وأن من ساعدهم على ذلك أمية المواطنين، ورغم ذلك يعود ليقول إن هناك الكثير من المتعلمين الذين يتبعون أولئك «الدجالين والسحرة»، ولكن إيمان الناس فى قرى مدينة شبراخيت بذلك كان كبيراً، يلتصق بحياتهم اليومية، ولا يستقيم لهم أمر حسب قناعتهم دون رضاء الشيخ، فعلى سبيل المثال «لو شاب هيتجوز لازم يروح لشيخ من دول يأكَّله ويديه فلوس لاحسن فرحه يبوظ، حتى لا يفسد عليه فرحته وعرسه».. يروى العمدة «زقزوق».
يقطع حديث العمدة دخول شيخ بجبة وقفطان وكولة حمراء، حلة أزهرية أنيقة، يعرفه العمدة بأنه الشيخ شرنوبى عبدالجواد، شيخ المعهد الأزهرى بالقرية، يشارك العمدة الحديث، ويقول إن هناك بالفعل سحرة، خاصة فى القرى الفقيرة مثل «محلة بشر»، وأن هناك قناعة لدى الغرباء، خاصة المقبلين من القاهرة والقرى الأخرى، بجدوى السحر فى شبراخيت، مما حولها إلى مركز لاستقبال كل من لديه قناعة أن لاعبى البيضة والحجر بين أيديهم حل الأمور المقعدة.
يقول الشيخ الأزهرى إن السحرة بدأوا فى الظهور فى القرية التى تعدادها نحو 30 ألفاً، منذ ستينات القرن الماضى على يد شخص يدعى «أبوعيشة»، وهو أساس ظهور السحرة والمشعوذين فى شبراخيت، ومن بعده امتهن تلك الوظيفة طلابه ومريدوه، فى قرية محلة بشر، ورغم القبض عليه أكثر من مرة فى عهد «عبدالناصر» لكن لم يصدر بحقه أى حكم قضائى، ليخرج ويعاود العمل من جديد.
يرفض الرجل فى حديثه أن يقول على السحرة «مشايخ»، ويصف مشهد الدجل فى القرية بأن «مساعدى السحرة والدجالين وشوية سماسرة يعملون لحساب الدجالين يقفون على كوبرى فى مدخل المدينة، ينتظرون الغرباء المقبلين للقرية لتوجيه كل منهم للساحر الذى يعمل لحسابه، بخلاف نشر أولئك الدجالين والسحرة ومن يعمل معهم الشائعات بامتلاكهم قدرات خارقة»، ويضيف الشيخ «شرنوبى» وهو يجلس بجوار العمدة ومعه كبار رجال القرية، أن هناك مشايخ «ديليفرى»، لديهم دراجة بخارية يلفون بها على المنازل والقرى، مدعين علاج المواطنين من المس الشيطانى.
ويحاول الشيخ دائماً مهاجمة من يسمون بـ«شيوخ فك الأعمال والسحر»، ويتذكر أنه خرج مع أسرة أحد أقاربه متوجهاً لأحد السحرة من أجل البحث عن حل لمشكلة ما، وخلال الطريق كان يداوم على إقناعهم بأن هذا الرجل «نصاب»، وعند دخولهم للرجل الدجال، أشار نحوه وقال لهم: «أخرجوا هذا الرجل من المجلس لأنه سبنى»، ما أبهر كل المجتمعين حوله وأقاربه: «خلاص كده الموضوع انتهى»، مشيراً إلى أن هؤلاء الدجالين لهم ألاعيبهم التى يسيطرون بها على المواطنين: «سمعوا كلام الراجل الدجال وماسمعوش كلامى أنا الشيخ الأزهرى».
العصبية القبلية والعائلية تسيطر على الموقف.. كان هذا هو السبب الذى ساقه الشيخ الأزهرى لعدم وقوف العائلات وكبار قرية «محلة بشر» للدجالين والسحرة واقتلاعهم من المكان، ويقول إن أهل قرية محلة بشر ليس لديهم قناعة بهؤلاء السحرة، ولكن عائلات السحرة عائلات كبرى لا يستهان بها، ولا يمكن اقتلاعها بالكامل من القرية: «مين يقدر يطرد عائلة كبيرة من أرضها وأملاكها؟!»، مشيراً إلى أن تلك العائلات التى يقوم عملها على السحر شيدت بيوتاً كبرى أنيقة واشترت الكثير من الأراضى واتخذت من التجارة عملاً لها، بعدما جنوا الكثير من الأموال من أعمال السحر والدجل.
يقاطع الحاج سعيد راضى، جزار وكبير أحد عائلات القرية كلام الشيخ الأزهرى، ويقول إن هذا ليس كل ما فى الأمر، ولكن هناك من يستفيد من وجود الدجالين، والأموال التى تنهال عليهم من أهل القاهرة والمحافظات وبعض دول الخليج والشام، والذين يأتون للبحث عن حل لهمومهم ومتاعبهم، وهناك أيضاً من يغض الطرف عن قصد لاستفادته من أعمال النصب والاحتيال تلك.
الشيخ الأزهرى، الذى ظل يهاجم السحرة والدجالين طيلة الجلسة، جاء فى نهايتها، وقال إن أحدهم كان يوماً ما سبباً فى حل أزمة زوجته، التى أصابها مرض عضال لم يجد له شفاء عند الأطباء، وإنه اعتمد على أحد الدجالين، الذى يعرف باسم «جزرة»، لا يتقاضى أموالاً ولكن يفك السحر والأعمال من خلال قراءة القرآن، يندمج الشيخ الأزهرى فى وصف ما رأته عيناه، مؤمناً بأن هذا الرجل الذى يعالج من المس والسحر دون أن يتقاضى أموالاً حل أزمة زوجته وشفاها من المرض، حسبما يعتقد.
«محلة بشر»، اسم ظل يتردد كثيراً على ألسنة كل من قابلتهم «الوطن» فى شبراخيت، والتى وصفوها بـ«المنبع»، وسبب انتشار السحرة فى مدينتهم، إنها قرية لا تبعد عن المركز سوى كيلومترات معدودة.
أبراج الحمام تعلو فى الأفق، وسط شواشى النخل، تظهر قرية «محلة بشر»، التى لا يفصلها عن مركز شبراخيت سوى طريق ضيق يكفى بالكاد لعبور سيارة واحدة، كوبرى يمر من فوق المصرف الزراعى الذى يشطرها، مزين بالسيراميك بألوان علم مصر، تظهر القرية هادئة، بيوت فقيرة تطلع بينها بنايات أنيقة ضخمة، يتابع المارة الغرباء بنظرات متفحصة، يرمقونهم دون حديث فى توجس.الديب مبروك، فى العقد السابع من عمره، عمل لسنوات فى محكمة، يقول إن مهنة السحر انتشرت فى البلدة «زيها زى أى بلد مشتهرة بمهنة معنية»، ويؤكد أن هذا الأمر بدأ منذ ثمانينات القرن الماضى.
الرجل السبعينى تابع الكثير من رجال السلطة والدولة فى عصور مضت، تخلوا عن سلطتهم ونزلوا القرية وتحركوا وسط الناس للوصول لأحد المشايخ والجلوس أمامه لحل مشكلاتهم، يسمى الرجل أسماء بعينها، تحتفظ «الوطن» بأسمائهم، منهم من راح زمنه ومنهم من توفى، بخلاف زوجات الكثيرين منهم اللاتى دخلن متخفيات، فضلاً عن بعض الأمراء والأثرياء، كلهم دخلوا القرية باحثين عن سحر بعينه، معتقدين أن فى يده سر الكون.
يوسف على ناصر، يعمل مدرساً، فى العقد الرابع من عمره، ابن عمة العمدة، يقول إن أول ساحر فى القرية كان الشيخ خليفة هيبة فى الثمانينات، وعرف عنه أنه أنهى سحراً لابنة الخديوى عباس حلمى فأهداه آلاف الأفدنة، وهو نسيب الشيخ المشهور عبدالحميد كشك، تلك العلاقة من النسب كانت سبباً فى شهرة القرية بالسحر والسحرة، وخلال إحدى خطب الشيخ «كشك» عن السحر، ذكر على الملأ محلة بشر، ومن هنا بدأ انتشار سمعة «محلة بشر» أنهم «سحرة موسى»: «كانت شهرتها فى البداية لا تتعدى مركز شبراخيت.. ولكن من وقتها أصبحت مهنة وسمعة ويقبل عليها الجميع من جميع أنحاء الوطن العربى».
فى أحد الأزقة الضيقة وسط الزراعات يظهر منزل عمدة القرية، لا يختلف كثيراً عن عمدة قرية «أبوالسحماء»، ولكن كان الأمر مختلفاً، حيث بدا العمدة على عكس الصورة السائدة عن عمد الإقليم، بدا شاباً يافعاً، جلس على مقعد العمدية بعدما ورثها أباً عن جد، وعلق صور أسلافه فى العمدية على الحائط بالأبيض والأسود، يرتدى ملابس إفرنجية، ويجلس ينفث دخان سيجارته، حلمى ناصر، عمدة قرية محلة بشر، يعيش أزمة أن قريته الصغيرة تعيش أسيرة تلك السمعة، يقول إن القرية كان بها 12 ساحراً ودجالاً، ولكن الآن يعدون على أصابع اليد الواحدة، حسب قوله.
العمدة الشاب، يتذكر جيداً حينما وقف والده لهؤلاء الدجالين وحاول اقتلاع تلك المهنة الخبيثة من بلدته، فأغلق القرية لمدة أسبوع كامل بالغفر والسلاح، ومنع دخول أى غرباء للقرية من المعلقة قلوبهم بأصحاب البيضة والحجر، ويصف «ناصر» الأمر بأنه كان أشبه بفرض حصار على الدجالين والمشعوذين، والذين كان يتوافد عليهم وزراء وأثرياء عرب وكبار رجال الدولة منذ عصر جمال عبدالناصر، كانوا يقبلون للتبرك بمشايخ السحر وحل أزماتهم على عتبات منازلهم، ولكن تلك السيارات وما بها من جاه وقف أمامها العمدة القوى، منع أى شخص من العبور إلى منازل الدجالين، ولكن كان الأمر لأجل مسمى، لم يستطع الاستمرار فى ذلك سوى أسبوع، ثم فك الحصار وعادت الأمور لما كانت عليه.ورغم ذلك يرفض العمدة الشاب تلك الوصمة، ويقول إن تلك القرية خرج منها الشيخ سليم البشرى المالكى، وهو من فقهاء المالكية، المولود عام 1248 هجرى، وتقلد منصب شيخ الأزهر فى القرن التاسع عشر، وهو شيخ الأزهر السابع والعشرين، لافتاً إلى أن ذلك كله يمحى من الذاكرة بسبب انتشار تلك السمعة التى ارتبطت بالقرية.
الحاج صبحى عبده، فلاح بالقرية، دوماً ما يلتقى الأغراب المقبلين بحثاً عن السحرة فى قريته، ودائماً ما يطالبهم بالرحيل: «بقول لهم ده شغل دجل»، يقدم الرجل النصيحة تاركاً من يرغب فى استكمال طريقه: «باعمل اللى عليا»، ويشير الرجل إلى أن غالبية السحرة توفوا، والموجودون لا يتجاوز عددهم 5.يذكر «عبده»، مرتضى منصور، رئيس نادى الزمالك، الذى ربط بين خسائر فريقه والسحر والشعوذة التى يقوم بها أعداؤه من الفرق الأخرى، وحين تأتى سيرة «مرتضى والسحر» يضج مجلس العمدة بالضحك، ويقول «ناصر» إن من أقنع رئيس الزمالك بهذا الكلام «نصابون»، حسب وصفه.
العمدة «حلمى» يقاطع الحاج «عبده»، ويقول إن الأمر تحول بالنسبة للكثيرين ممن يعملون فى السحر فى القرية الآن إلى مهنة، «مجرد أرزقية وشباب بياكلوا عيش من الحكاية دى مستغلين شهرة القرية بالسحر»، دون علم أو قراءة أو دراية ببواطن الأمور كما كان مشايخ القرية قديماً»، ورغم أن العمدة «حلمى» يقر أنه ما زال هناك من يمتهن السحر فى البلدة، لكنه يؤكد فى الوقت نفسه أن مسألة السحر انتهت، وأن الموجودين عددهم قليل.