من أجمل الصفات التى تميز الإنسان الراقى الوضوح والنقاء، ومن أكثر الأمور أريحية أن تعيش وسط العالم بوجهك وقلبك اللذين وهبهما الله لك، ولعل أصدق مثال على ذلك وجوه الأطفال حديثى الولادة وتلك الانفعالات التى تظهر عليها وتدهشنا وتأسرنا وتذيب قلوبنا عشقاً وبهجة وتوقعنا فى هوى تلك المشاعر الخضراء، ما بين بكاء وتظلم وشكوى واستعطاف وضحكات ساحرة مغلفة بالأشواق لرائحة الأم وأخرى صاخبة مرحبة بهلتها وطلتها وألم وجوع وبحث عن مصدر الإشباع، سواء للمعدة الصغيرة أو للقلب الطائر وسط الملائكة أو للأصابع الصغيرة المتشبثة بالأيدى الدافئة أو الباحثة عن وجوه نورانية تداعبه، وزهور يلتحفها وتهدده وأرجوحة يتنافس للفوز بها دون أقرانه تتمايل بهم بين السماء والأرض، ولعلنا نحن أصحاب الوجوه التى تعلمت كيف تخفى ولا تظهر إلا المسموح به وما يتناسب مع العادات والتقاليد التى تحاصرنا وتفرض علينا ما يحولنا إلى وجوه ومشاعر تنكرية، ندرك معنى تلك الحياة، ولقد تعلمنا منذ طفولتنا أن هناك ملابس تنكرية يمكن لمن يستخدمها أن يتحول من ذاته إلى أى إنسان آخر تمناه أو بحث عنه أو أعجب به أو ملأه خوفاً، فيحاول أن يقترب من ظاهر الشخصية وأن يرتدى ثيابها، فربما يقضى على ذلك الخوف ولو لساعات، وقد تتقمصه بالفعل تحقيقاً لرغبة شخصية غير واضحة، وهنا نبدأ الحديث فأقول لكم أحبتى قبل أن أحدثكم عن المشاعر التنكرية أن الحفلات التنكرية التى استعرت منها هذه الكلمة لها تاريخ قديم بدأ وتزامن مع عيد القديسين فى المسيحية، حيث كانت تتم سنوياً ويرتدون ملابس القديسين ويقومون بتمثيل أدوارهم على المسارح، ثم انتقلت بعد ذلك إلى القصور الفارهة للدوقات والبارونات فى القرن الوسيط، حتى إن الملوك مثل شارل الأول والأميرة كاترين وغيرهما كانوا على رأس المتنكرين، بل إن الأمر وصل لأن يرتدى الملابس التنكرية جواسيس الملك ويختفون خلف الأقنعة لمراقبة الحضور والاستماع لهم وهم يتحدثون وكأنهم يقومون بدور أجهزة استخبارات، ومن الطريف أن أشهر قصص الأطفال فى العالم (أليس فى بلاد العجائب)، التى خرجت لأول مرة للنور عام ١٨٩٥ خرجت من فكرة التنكر فى صورة ملابس حيوانات وطيور، والذى كتبها (لويس كارول)، وفى أفريقيا كان استخدام الأقنعة فى الحفلات التنكرية من قبل مجموعات تسمى (الطواطم)، حيث يرتدون أقنعة لطرد الشياطين أو جلب المطر وغيرها ولا تزال عملية التنكر فى بعض احتفالات أفريقيا جارية حتى الآن.
ونعود مرة أخرى إلى المشاعر التنكرية فهى قصتنا اليوم فمن أجمل ما قرأت على لسان السير مجدى يعقوب، طبيب القلوب المصرى الشهير، أن إخفاء المشاعر والغضب والحزن يؤدى إلى هبوط القلب، وأن هناك مرضاً يصيب النساء بنسبة أكبر بكثير من الرجال يسمى (القلوب المكسورة) أو (كسرة القلب)، الذى يترجم طبياً بحزن شديد يؤدى إلى هبوط حاد فى القلب حتى الموت، ويوضح يعقوب ذلك بأن القلب يفرز هرمونات كثيرة مؤثرة على المخ والبنكرياس والوزن، بمعنى أنه يتحكم فى أجزاء كثيرة من جسم صاحبه، ويحذر أطباء القلب بصفة عامة من المشاعر التنكرية التى قد تؤدى إلى إجهاد شديد وعواقب متتالية وضغوط على الجسد تشمل زيادة ضغط الدم وكثافته وقفلة الشرايين والوفاة.
وقد أظهرت دراسة أمريكية صادرة عن كلية هارفارد بالتعاون مع جامعة روشستر، التى أعدها مجموعة من العلماء، أن مخاطر الوفاة المبكرة تتزايد بما نسبته ٣٥٪ من بين الأشخاص الذين لا يحاولون التعبير عن مشاعرهم ويخفونها، وتشير الدراسة إلى أنه فى كثير من الأحيان تكون الأمراض العضوية ترجمة لكتمان الألم والمشاعر، فيصاب الإنسان بما يسمى (الأمراض النفس جسمية) وأعراضها تختلف من شخص لآخر، إلا أن أبرزها التعب العام والإرهاق وضيق النفس وعدم انتظام دقات القلب والتوتر الدائم، ويرجعون ذلك لتراجع نسبة المناعة لدى الإنسان لسوء حالته النفسية، ومن الطريف أن تكون توصيات الدراسة الأمريكية ونصائح أطباء القلب هى ملخص لكلماتى لكم، فأنا أحذركم أحبائى وأصدقائى من المشاعر التنكرية وكسرة القلوب، وهم فى نفس الوقت يقولون إنه مهما حاول الإنسان إخفاء ما فى داخله وأظهر عكس الحقيقة على خارجه فلن يحتمل التظاهر فترات طويلة من الوقت، وفى جميع الأحيان سيكون أمراً مؤقتاً وسرعان ما ستسقط المشاعر التنكرية كما يحدث فى الحفلات التنكرية وتسقط الأقنعة رغماً عن الجميع، فتمسكوا بمشاعركم الحقيقية، حفظكم الله وقلوبكم لأحبتكم.