جهاد عباس تكتب: حب من طرف واحد
جهاد عباس
هنا تعلمتُ كل دروس الحياة، نضجتُ بين أروقة «الوطن»، تحديت كل مخاوفى، بعد أول شهرين لى فى الجريدة، جازفت لأثبت مكانى، حتى وإن كان الثمن تعرض حياتى للخطر، تحقيق «مكتب بيع البنات» قلب مصر ولم يقعدها، قنوات فضائية تذيع مكالمات التهديد من صاحب المكتب، وإعلاميين كبار يدافعون عن الصحفية الشابة، أما أبى وأمى فكانا يتابعاننى فى خوف وفخر، قد عرفا من الوهلة الأولى أن «نداهة» الصحافة جرفتنى، ولن أعود كما كنت أبداً.
صوت ما بداخلى دفعنى دائماً للمعافرة، هو الصوت الذى دفعنى لدخول كنيسة «مارجرجس» فى مدينة طنطا فور حدوث الانفجار الإرهابى، كنت فى النادى الرياضى المجاور مصادفة، بينما تدافع الناس خروجاً وهم يحملون الضحايا المغطين بالدماء، كنت أشق طريقى بينهم فى الاتجاه المعاكس دخولاً لأصور وأوثق الحادث بالموبايل، يجذبنى شاب محاولاً إبعادى، قائلاً: «ليكى حد جوه هجيبهولك»، أبعد يده بعنف، قائلة: «أنا صحفية».
مع الوقت تغيرت نظرتى للحياة بكل تفاصيلها، راقبت نظارتى الشمسية المفضلة، وهى تغطس فى النيل، بينما كنت أرافق فرقة الإنقاذ المكلفة بانتشال ضحايا حادث مركب الوراق، لوهلة حزنت ثم شعرت بالخزى والعار، فى تلك المياه فقد «عثمان» ابنته «منى» وأطفالها الخمسة.
جبتُ كل محافظات مصر، فى البرد والحر والأمطار والسيول، تعلمتُ أن أكون «شوارعية» بامتياز، وأنتشى فخراً بالصفة التى يعتبرها البعض سُبّة، ولكنها فى حقيقة الأمر نعمة كبيرة من الله، نعمة أن تنصت جيداً إلى غيرك، تنصت بما يكفى لتستمع إلى نبضات قلبه وتنقلها على الورق.
كلما أغضبتنى «الوطن» أطفأت أنوار غرفتى، وكتبت استقالة شديدة اللهجة، أمحو أثرها فى الصباح وأهم بالنزول إلى «جورنالى» فى موعد العمل المحدد. كنتُ أنتظر إشارة من الله، إشارة واحدة لأتيقن من أننى أسير فى الطريق الصحيح. «الوطن» ما هو إلا نموذج مصغر من الوطن الأكبر مصر، يخلقان بداخلك صراعاً لا ينتهى، ما بين الغضب والتعلق، الحنين واليأس، الفخر والانكسار، وفى خضم تلك المشاعر المتخبطة لا تتوقف عن حب «الوطن»، حتى لو كان حباً من طرف واحد.