شيخ النحاتين.. «المطعنى»: «خايف على المهنة»
«المطعنى» خلال عمله بورشته
داخل منزله الذى ما زال على هيئته الأولى منذ عشرات السنين، مبنى بالطوب اللبن، ومسقوف بالجريد، يعيش الرجل العجوز، سيد المطعنى، داخل قرية القرنة، بالبر الغربى، ما زال يحتفظ بسر مهنته، صناعة التماثيل المقلدة، هو آخر سلالة الموهوبين فى تقليد القطع الأثرية، لتكون طبق الأصل، بعدما انقرض جيله بكامله ولم يتبق إلا هو، حتى إن أهل القرية بكاملها يسمونه بـ«الدكتور سيد».
على طاولة صغيرة، وضوء كشاف ينير بالكاد ما بين يدى الرجل، يجلس المطعنى، وحوله تنتشر قطع الحجارة الصغيرة، وسط ورشته التى لا تتعدى أمتاراً، يخرج من درج صغير صوراً للقطع الأصلية، ويأخذ فى تقليدها، وإلى جواره شاب أنهى حياته الجامعية للتو يحاول التعلم من الرجل.
من تحت عويناته الطبية يدقق النظر بشدة فى ذلك التمثال الذى لم ينته منه بعد، ويستعد لإهدائه لإحدى الجامعات الأوروبية، حيث إن «المطعنى» الذى يداوم على كتابة أحد الأحرف الفرعونية على القطع الأثرية بشكل خاطئ، حتى يستطيع الباحثون والأمن التفرقة بينها وبين الأصلية، من شدة مطابقتها للأصل، وبعدما اكتشف أن بعض القطع التى يقلدها يستخدموها نصابون فى بيعها كآثار أصلية لبعض الراغبين فى اقتنائها.
صنع التماثيل الفرعونية لرؤساء أمريكا وعمدة باريس.. ولا ينسى أيام تعلمه الفن فى منزل «كارتر»
يخرج سيد الطفل الصغير المولود سنة 1947 من مدرسته وعلى ظهره حقيبته مثقلة بالكتب، ويتوجه مسرعاً ليمارس هوايته فى لعب كرة القدم بين مقابر القدماء: «ماكانش وقتها عليها سور وكنا عايشين فى القرنة القديمة وسط المقابر والمعابد»، حاول الطفل «سيد» نقش الكتابات المكتوبة على الأحجار، ثم حاول تقليد تلك التماثيل ونحتها ونحت كلماتها، لكن لم يكن ذلك كافياً ليصنع منه أشهر نحات فى صعيد مصر، حيث كانت المدرسة الحقيقية داخل منزل «كارتر»، مكتشف مقبرة «توت عنخ آمون»، حيث كان يقطنه عدد من الباحثين والأثريين، وجدوا ضالتهم فى ذلك الطفل الصغير وأنامله البارعة، فعلموه تقليد القطع الأثرية، والكتابة الفرعونية، يدين الرجل لهم بالفضل، ويحفظ أسماءهم عن ظهر قلب، ويعدها: «الدكتور شحاتة آدام، وأحمد يوسف، ولبيب حبشى».
ترك «المطعنى» مهنة آبائه وأجداده فى صناعة الهدايا التى تقدم للسائحين، وصب كل اهتمامه على تعلم تقليد الآثار الفرعونية، يقول إن كل الأحجار التى استخدمها الفراعنة القدماء فى تصميم معابدهم وتماثيلهم وآثارهم كانت مستخرجة من جبال الصعيد، مشيراً إلى أن القدماء تماهوا مع الطبيعة فشكلوا منها حياتهم، فالرجل الذى تخرج من تحت يديه قطع لا يستطيع الأثريون التفريق بينها وبين القطع الحقيقية، يقول إنه يستخدم خامات من جبل القرنة كان يستخرجها القدماء ويصنعون منها تماثيلهم.
عرض عليه الأوروبيون تأسيس مدرسة لتقليد الآثار المصرية بسويسرا ورفض
مع مرور الوقت ذاع صيت «المطعنى» وسط السائحين، يقبلون عليه بالاسم ويطلبون منه تقليد قطع بعينها لكى يأخذوها معهم، عرض عليه بعض الأوروبيين تأسيس مدرسة لتعليم فن تقليد الآثار المصرية بسويسرا، ولكن الرجل رفض: «المهنة دلوقتى أكل عيش لأكثر من 70 ألف واحد من أهل بلدنا مش هقطع عيشهم»، صنع «المطعنى» لرؤساء أمريكا ممن زاروا مصر تماثيل فرعونية، وكذلك عمدة نيس وعمدة باريس، والملكة صوفيا ملكة إسبانيا أهدته هدية يحتفظ بها حتى الآن، لكن فى أحد أيام الصيف الحارة، زاره أحد الأجانب وطلب منه صناعة تمثال، لم يكن الأمر غريباً فى البداية، لكنه طلب منه أن يشاهد مراحل التصنيع بالكامل، وبالفعل استمرت صناعة التمثال لمدة أسبوع، وبعد رحيله فوجئ بتليفون منه يريد مقابلته فى فندق شيراتون المطار، وهناك أخبره بحقيقته وهى أنه وزملاءه أساتذة فى كلية الفنون الجميلة بجامعة سيدنى، ومنحوه شهادة الدكتوراه الفخرية من الجامعة وطالبوه بالتدريس هناك، ولكنه رفض: «مش هسيب بلدى وقريتى وانا فى السن ده».
من حينها أصبح المطعنى «الدكتور سيد»، بزهو شديد يقول لـ«الوطن» إنه يدرس فن تقليد الآثار فى أهم جامعات أوروبا، وله الكثير من المحاضرات فى فرنسا وإنجلترا وهولندا عن فن نحت وتقليد الآثار المصرية القديمة، فى الوقت الذى يجلس هنا دون أن يحاول أحد الاستفادة من قدراته فى مصر، حاول المطعنى تعليم جيل جديد يرث تلك المهنة، من خلال ورش قدمها فى محافظة قنا ومحافظة الأقصر، لكن لم يجد الاهتمام اللازم من ذلك الجيل الذى قرر أن يورث له تلك المهنة، لم يجد الشغف وحب المهنة، لم يجد أنامل تستطيع أن تحيى مهنة ورثها من القدماء المصريين، كل ما يحلم به المطعنى أن يجد ضالته فى شباب ينقل لهم مهنته حتى لا تندثر.