جلال هاشم.. المبدع صانع «الصمود» و«النصر» من شظايا العدوان
هاشم
رفض ترك مدينته الإسماعيلية، وقرر البقاء بها والانضمام إلى مقاومتها الشعبية، حتى أصبح قائد المقاومة الشعبية فى قطاع هيئة قناة السويس، أراد أن يُخلّد صمود أهالى المدينة ومقاومتها لضربات المحتل الإسرائيلى أثناء نكسة 67 وحرب الاستنزاف، فظل يبحث عن طريقة تخلّد شجاعة المدينة حتى وجد ضالته فى تدشين تمثال من شظايا قنابل القوات الإسرائيلية التى وجدت طريقها إلى قصف منازل ومنشآت مدينة الإسماعيلية، فى إشارة إلى صمود أهالى الإسماعيلية.
جلال عبده هاشم.. الشاب العشرينى، توجّه وقتها لكتابة مقال فى جريدة «الجمهورية»، صبيحة يوم 30 أبريل 1968، مطالباً الفنانين التشكيليين بتدشين عمل فنى يخلّد صمود وكفاح شعب الإسماعيلية فى مواجهة العدوان، لكن مطالبات الشاب لم يقابلها أى رد فعل حتى فوجئ وقتها بصديق له يُدعى «حسين الأسود»، رئيس المجلس المحلى لمدينة الإسماعيلية، بمنحه ورقة بيضاء تضم شظية لقذيفة وقعت أمام منزله، قائلاً: «كنت واقف فى البلكونة لقيت حاجة راشقة فى الخشب، لقيتها شظية، افتكرت مقالتك علشان تعمل التمثال».. وهو ما رد عليه «جلال» وقتها: «للأسف مش هاعرف أعمله، لأنه محتاج إمكانيات»، فقال «الأسود»: «لو حد غيرك عمل التمثال ده مش هيكون له قيمة، ولو انت محتاج أى إمكانيات أنا هاساهم معاك».
ساعده جندى مصرى فى تجميع شظايا القنابل المصرية لتنفيذ التمثال قبل حرب أكتوبر بشهور
كلمات «الأسود» كانت حافزاً لـ«جلال» بالتفكير فى تنفيذ التمثال، فما كان أمامه سوى التوجّه إلى صديق له يعمل لحاماً يُدعى سامى الليثى، للبدء فى تنفيذ التمثال، فى الوقت نفسه بدأ أهالى الإسماعيلية بالتوافد على «جلال» ومنحه شظايا القنابل الإسرائيلية التى استهدفت منازلهم ومحالهم التجارية، وتحول محل والده التجارى إلى مخزن للشظايا التى انتهت بتمثال يصل طوله إلى 275 سنتيمتراً ووزنه 312 كيلوجراماً.
داخل مكتبه بمدينة الإسماعيلية.. التقت «الوطن» الرجل السبعينى، الذى ما زال يحتفظ ببقايا شظايا للقنابل الإسرائيلية وقنابل «مكدبة»، أى لم تنفجر بعد سقوطها، يجلس وسط أرشيفه المصور، مرجعاً سبب تفكيره فى إنشاء التمثال، قائلاً: «أنا كمصرى لا أقل إطلاقاً عن أى إنسان فى العالم فكرياً، الفرق بينى وبينه الإمكانيات، والإمكانيات أقدر أعوضها بأفكار، أنا عاصرت حرب الفدائيين ضد الإنجليز، وحرب 67 و73، لم أرَ أى شىء يخلد بطولات الناس، حبيت أعمل حاجة تعيش على مر الزمن، ممكن أكتب قصة الناس، هتقراها وبعد كده تتركن، حبيت أعمل حاجة أضعها فى مكان عام، الناس تشوفها هى وأولادها وأحفادها، وتكون موجودة قدامهم على مر العصور».
يضيف «جلال»: «الحاجة علشان تكون معبرة وصادقة لازم تكون من نفس الحدث، وفى توقيت الحدث، ومن مكان الحدث نفسه، قُلت إحنا كمصريين إيه الابتكار اللى احنا نقدر نعمله ونتحدى به العالم وقتها كان حرب أمريكا وفيتنام، لما كانوا بيسقطوا طيارة أمريكية كانوا بيصنعوا منها خواتم ونياشين، ويكتبوا عليها تاريخ سقوط الطائرة ويوزعوها عليهم كهدايا فى السفارات، وكان الموضوع بيضايق أمريكا جداً، ومن هنا فكرت إنى أعمل تمثال من شظايا القنابل الإسرائيلية».
رفض ترك الإسماعيلية وقت النكسة وانضم إلى المقاومة الشعبية حتى أصبح قائدها.. وطلب من «أبوغزالة» جزءاً من طائرة إسرائيلية لتنفيذ تمثال «النصر»
وتابع عم «جلال»: «استعنت بكوماندوز مصرى كموديل للتمثال، وبدأت فى التنفيذ، وانتهى التمثال لشاب مصرى من أفراد المقاومة، يقف بقدمه على شظايا القنابل الإسرائيلية ويمسك بيده اليمنى سلاحاً ويده اليسرى قنبلة إسرائيلية يعيد توجيهها إلى المحتل مرة أخرى، وأطلقنا عليه تمثال الصمود».
صعوبات كثيرة كانت تواجه «جلال» فى تنفيذ التمثال كانت أولاها عدم خبرته واعتماده على موهبته فى الرسم، بالإضافة إلى الظروف الصعبة التى كان يعمل بها تحت القصف، والعمل فى ظلام دامس، حيث كان يعتمد على الإضاءة المغطاة بورق الكربون، تفادياً للقصف والغارات، إلا أن النتيجة النهائية للتمثال والحفاوة التى لاحقته كانت سبباً كفيلاً لتعويض تعبه: «بعد الانتهاء من تنفيذ التمثال تلقيت طلباً من الدكتور مفيد شهاب، كان وقتها أمين منظمة الشباب الاشتراكى، يخبرنى بأنه تم تخصيص سرايا رقم 3 لعرض التمثال فى معرض القاهرة الدولى للكتاب فى القاهرة، وبالفعل تم نقل التمثال من الإسماعيلية لعرضه فى معرض الكتاب فبراير 1972، وتم مد المعرض أسبوعاً إضافياً، بعد الإقبال الشديد على مشاهدة التمثال».
الاحتفاء بتمثال «الصمود» لم يكن احتفاءً محلياً فقط، إذ لاقى إعجاباً وتقديراً من السفارة الفيتنامية فى القاهرة، وهو ما قال عنه «جلال»: «عرضنا التمثال فى المركز الثقافى للدبلوماسيين الأجانب فى الزمالك، ووقتها وجدت سكرتير سفارة فيتنام، يدعونى لحفل كبير فى السفارة الفيتنامية، وقمت وقتها بتصنيع حرف «V» باستخدام شظيتين على قاعدة خشبية ترمز إلى الحرف الأول من دولة فيتنام وعلامة النصر فى آن، وفى المقابل منحونى دبلة مصنوعة من طائرة أمريكية أسقطها الفيتناميون، وقالوا لى: «كنا فاكرين أننا بنعمل بالطيارات الأمريكانى اللى ما اتعملش، إحنا لما شُفنا تمثالك انبهرنا بالعقلية المصرية، مفيش فنان قدر يجمّع شظايا القنابل ويعمل بيها عمل فنى زى ده».
لم يكتفِ «جلال» عند تصميم وتنفيذ «الصمود»، لكنه بدأ تنفيذ حلمه الثانى، وهو التفكير فى تنفيذ تمثال «النصر»، ليصنعه من شظايا القنابل المصرية ضد الإسرائيليين فى سيناء، يصنع خصيصاً للاحتفال بنصر الجيش المصرى فى سيناء، رغم أن حرب الاستنزاف كانت مستمرة ولا يعلم أحد تاريخ الحرب، وهو ما عبّر عنه «جلال» بقوله: «كان نفسى أعمل تمثال من شظايا القنابل المصرية فى سيناء، وبالفعل بدأت فى نوفمبر 1972 فى تصنيع التمثال».
جمع شظايا القنابل الإسرائيلية التى استهدفت الإسماعيلية وصنع منها تمثالاً وزنه 312 كجم وارتفاعه 3 أمتار
تجميع شظايا القنابل المصرية من سيناء أمر لم يكن سهلاً وقتها، إلا أن القدر كانت له كلمة أخرى فى هذا الأمر، يتذكر «جلال» عندما كان يجلس هو ورفاقه من أفراد المقاومة الشعبية ذات مساء حين سمع خطوات قدم غريبة فى شارع مصر، وبمجرد اقتراب الصوت وجدوا جندياً يُدعى «خليل»، حذاؤه ممزق، ويسأل عن «جزمجى» لتصليح نعل حذائه حتى يلحق بسيارة الجيش المتجه إلى سيناء، ورغم محاولات «جلال» لإصلاح الحذاء، فإنه لم يتمكن، ليكلف أحد الشباب بالذهاب إلى «جزمجى» المنطقة: «أثناء تصليح الحذاء كان أفراد المقاومة قاموا بتوفير طعام للجندى اللى جاب أكل واللى جاب كوباية شاى، وأثناء مغادرة الجندى، سألنى تطلب منى إيه أجيبه من سيناء، فكان الرد عاوزين شظايا القنابل المصرية فى سيناء».
لم يمر أسبوع، حتى سمع «جلال» نداءً من «خليل» يخبره بأنه أوفى بوعده وأحضر له سيارة محمّلة بشظايا القنابل المصرية فى سيناء، يتذكر «جلال» الموقف مبتسماً: «العربية كانت محتاجة 50 فرد علشان ينزلوا اللى عليها، وبالفعل نزلنا، جبنا الأولاد ونقضنا الشظايا، وقسمناها على حسب حجمها، وبدأنا نستعد للتمثال».
انخراط «جلال» بالمقاومة الشعبية جعله على علاقة وطيدة بالعميد محمد عبدالحليم أبوغزالة، قائد مدفعية الجيش الثانى الميدانى، الذى أصبح فى ما بعد وزيراً للدفاع، وهو ما جعله يطلب من «أبوغزالة» جزءاً من طيارة إسرائيلية عليها نجمة داوود، ليحصل على جزء من الطيارة، لكن دون النجمة، ويقوم بقصها وتصغير حجمها، لتكون قاعدة تمثال «النصر»، التى يظهر عليها جندى مصرى وهو يقف على الطيارة الإسرائيلية، وخلفه علم مصر، رافعاً يده بالسلاح واليد الأخرى علامة النصر، لتنتهى الحرب ويظل تمثالا النصر والصمود شاهدين على فترتى الحرب والانتصار فى أهم ميادين محافظة الإسماعيلية.
بقايا قنابل فى مكتب جلال هاشم
تمثال الصمود