في مدينة السادس من أكتوبر وتحديدا طريق الواحات، اقتربت مني أم ثلاثينية تحمل رضيعًا بين يديها ويسير بجانبها 3 أطفال (طفلين وطفلة)، ثم سألتني عن أحد الفنادق الشهيرة والذي كان على بعد حوالي 500 متر سيرًا على الأقدام، وبعد أن أوضحت لها الطريق طلبت من أبنائها التأهب لعبور الطريق.
نظر لها الابن الأكبر ببراءة ثم تساءل: «هنعدي الشارع الصعب ده؟» فردت بمنتهى الثقة: «امسك ايد اخوك كويس بس»، وبالفعل تمركز الطفل الصغير بين يدي شقيقه وشقيقته وعبر معهما الطريق وهو غير مبالِ بـ«الشارع الصعب»، حسب وصفه شقيقه الأكبر.
توتر الأم كان ظاهرًا في وصيتها للأبناء بأن «يمسكوا إيد أخوهم كويس»، وربما كان الابن الصغير الذي لم يتجاوز الرابعة الأكثر اطمئنانًا في هذه المجموعة، فأقدامه لم تكن مسرعة وعيناه لم تلتفتا يمينًا أو يسارًا، ولكنه ترك نفسه أمانة في أيدي هؤلاء المسؤولين عنه، والذين كانوا صغارًا سنًا ولكنهم كبارًا بقلوبهم وتحملهم المسؤولية.
«امسك إيد أخوك كويس»، ربما الجملة تكررت على مسامع الكثيرين، ولكن المغزى من هذا النداء ليس هيّنًا على الإطلاق، تلك الجملة ظلت تتردد في أذني وتذكرني بالأسرة التي نشئت فيها؛ فحظّي كان من حظ ذاك الطفل الصغير، فأنا أخ أصغر لشقيق وشقيقة شاءت الأقدار أن يكونا الفارق العُمري بيننا كبيرًا نوعًا ما.
«محمد» أخي الأكبر الذي كان جاوز العاشرة حينما ولِدت؛ يكبر شقيقتي «هبة» بعام واحد، طالما حسدتهما على اقترابهما في السن، فضلا عن الذكريات المشتركة التي تكونت بينهما بحُكم النشأة والتقارب في السِن وتقاسم الحياة سويًا بكل جوانبها ومراحلها، فمحمد الذي يكبرني بعشرة أعوام وهبة التي تكبرني بتسعة، كانا صديقين أكثر من كونهما أشقاء، فكثيرًا ما وجدتهما في جلسات هزل ودعابة ونقاش وخلاف تمنيت أن اقتحمها ولكن دائمًا كنت ألتزم بحدود كوني الأخ الأصغر الذي لا يصح أن يتدخل فيما ليس له به علم.
أدرك إنني كنت أخًا صغيرًا شقيًا ومستفزًا في كثير من الأحيان، خاصة مع «محمد» الذي عشق الخصوصية وكره الاقتراب من أدواته وأشيائه الخاصة، ولكني دائمًا ما كنت أعبث بأدواته المكتبية التي لم أكن أصدق أن أمتلك مثلها يومًا، فضلا عن جهاز الكومبيوتر الذي فرض عليه حظرًا منذ يومه الأول في المنزل، فالكومبيوتر –آنذاك- لم يكن جهازًا معتاد العثور عليه في المنازل، والأطفال قديمًا لم يستخدموا تلك الأجهزة المتطورة مثلما هو الحال الآن، ولكن فضولي دائمًا كان يدفعني للعبث بهذا الجهاز الذي حال بيني وبينه كلمة سر لم يكن يعرفها أحد سوى شقيقي الأكبر.
ولكني دائمًا ما كنت أتعشم في حُسن تصرفه، فأتذكر أنه اشترى لي كتيبات تلوين صغيرة وأبرم صفقة بيننا بأن يعطيني كتابًا إذا لم أعبث بأشيائه الخاصة، كما سمح لي ببعض الـGames على الكومبيوتر.
وعندما كنت في الصف الثالث الابتدائي وجدت على مكتب أخي روايتين إحداهما بعنوان: «أوليفر تويست» والأخرى «روبنسون كروزو»، وجدت داخلي رغبة جامحة لاستكشافهما، ولكني تذكرت نصيحة أخي لي في إحدى جلسات الصُلح عندما قال: «لما تحتاج حاجة من حاجتي أطلبها مني يا كريم»، فأخذت الرواية الأولى وتوجهت له طامحًا أن يسمح لي بقرائتها.
رحب «محمد» برغبتي ترحيبًا لم يخل من تحذير بشأن صعوبة ألفاظها، ولكني أصريت على قرائتها، وبعد حوالي 30 صفحة أدركت أنني بصدد قصة إنسانية بسيطة في سردها وراقية برسالتها، وكنت أحيط أخي علمًا بمراحل قرائتي للرواية حتى أنهيتها وبدأت في الأخرى، وهاتان الرواياتان كانتا المدخل الأساسي لعالم القراءة الخاص بي.
بعد تجربة «أوليفر تويست»، أصبح «محمد» يشتري لي إصدارات مكتبة الأسرة للأدب العالمي والمبسط منها للأطفال، ويسمح لي باستعارة الكتب من مكتبته الخاصة شرط الحفاظ عليها.
علاقتي بمحمد مرت بمراحل عديدة، وربما ثمة قواسم مشتركة بين كل المراحل، ولكن حتمًا شقيقي الأكبر كان مرنًا قدر المستطاع، فمؤخرًا زادت حلقات النقاش المشتركة بيننا في المجالات السياسية أو الاقتصادية أو حتى الأمور الشخصية، فهو الآن أصبح الملجأ والمصدر الأول للنصيحة.
في عامي الدراسي الأخير صارحته برغبتي في ترك العمل والاهتمام بالدراسة فقط حتى أتجنب فخ الرسوب أو دور أكتوبر اللعين، ولكنه نصحني بأن أبذل جهدًا إضافيًا من أجل المضي قدمًا في طريقي العمل والدراسة بالتوازي، ولكنه –كعادته- أنهى نقاشنا بجملة: «افعل ما تراه صحيحا ومناسبا»، وبالفعل التزمت بنصيحته، وبعد انتهاء الدراسة سألته مجددًا في أي طريق أسير؟ وكانت نصيحته بأن أمنح نفسي فرصة لمدة عامين من أجل استكشاف سوق العمل والاستقرار على المجال الذي أريده ويتناسب مع هواياتي وقدراتي وأحلامي.
محمد.. كان عمليًا لدرجة كبيرة ومتقدمة، ورغم ذلك فهو مُدرك المسؤولية الملقاة على عاتقه كونه الأخ الأكبر، وكثيرًا ما يرسل رسائل طمأنة مفادها أنه لن يتركني وحدي في أسوأ الاحوال؛ فمثلما كان عنصرًا أساسيًا في تربيتي وطفولتي اليوم هو عنصر أساسي في مستقبلي وخطواتي المقبلة.
أما «هبة» شقيقتي الكبرى، فهي باختصار تمثل وجه الدنيا الحسن، منذ طفولتي وأنا أعتبرها أُمًا ثانية، تلك الأم الصغيرة في السن خفيفة الظل التي لن ترضى لي بالقهر والحزن والفشل والضيق.
قالت لي صديقة ذات يوم إن «هبة» هي الـ«Comfort Zone» بالنسبة لي، وربما هذا الوصف صحيح نسبيا، فأنا لا أجد راحتي سوى معها، فهي تمتلك مفاتيح شخصيتي وتعرف أسراري ومواطن راحتي، وتمثل الملاذ الأول الذي أركض نحوه بعد أي صدمة أو أزمة، وأعشق فيها أنها تبحث دومًا عن الحل ولا تستهلك نفسها في إصدار النصائح وتدريس القيم والأخلاق.
«هبة» لم تفرض على علاقتنا القيود بحكم فرق السن، فكثيرًا ما أشعر أنها أختي الصغرى الأولى بالاهتمام، وأحيانًا أجد راحتي في التعامل والمزاح معها متجاهلًا فارق السن الوهمي الذي فشل في أن يفرض قيودًا على علاقتنا.
«هبة» هي المهدئ الطبيعي الذي ألجأ له، فعندما اتخذ قرارًا لا أعلم مدى صحته؛ سرعان ما أتصل بها هاتفيًا لأخبرها بأن هذا القرار نهائي لا رجعة فيه، ودائمًا أنهي الاتصال هادئًا ناسيًا هذا القرار الانفعالي الذي لم يكن ليجدي نفعا إذا اتخذته.
أختي الكبيرة، أجدها دائمًا نقية، أشهد الله أنني لم أجدها يومًا تدخر جهدًا من أجل مساعدة الغير، فهي الشخص الذي قيل عنه إن سعادته تكمن في إسعاد غيره، فهي الشخص المُبهج المُبتسم المتمرد على كل ما هو قبيح. في أحد الأيام تحدثت مع والدي وأعربت عن ضيقي بسبب فارق السن الكبير بيني وبين أشقائي، ولكنه رد بدبلوماسيته المعهودة قائلا: «أنا أجد فارق السن هذا ميزة أكثر من كونه عيبًا، فغدا ستجد في أخوك الأب وفي أختك الأم، ومن ثم يمكنك اتخاذ النصيحة العلمية والعملية من محمد، والحب والعاطفة من هبة؛ فالأنثى دائمًا ما تكون عطوفة على شقيقها الأصغر.. والأيام ستثبت صحة توقعي». والأيام فعلا تثبت صحة تحليل أبي الذي أوصانا على بعضنا البعض بطرق مباشرة وغير مباشرة، فكثير من الأمور التربوية كان يطلب أبي من شقيقي الأكبر التدخل فيها، وأمور أخرى كان يقول لي إن أختي الكبيرة قد تعطيني نصيحة أفضل من نصيحته الشخصية؛ إيمانًا منه باختلاف الأجيال والعقول. مبدأ احترام الكبير والعطف على الصغير ترسخ داخلنا من الصغر، واليوم بعدما كنت أخًا صغيرًا لـ«محمد وهبة» أجد نفسي أخًا أكبر لأبنائهما، ورغم غياب أبي منذ 5 سنوات، إلا أن صورته لازالت محفورة داخلنا ونصائحه هي دستور العائلة الذي سيظل رباطًا أبديًا بيننا.
تغني حنان ماضي في تتر مسلسل «على نار هادية» كلمات الشاعر العظيم سيد حجاب: «ولا حد يشيل عنك همك.. إلا اللي دمه من دمك»، ويومًا بعد يوم أتأكد أن الهم واحد والمصاب مشترك ولا أحد سيحمل عني همّي سوى هؤلاء رفاق العمر والبيت والدم..
فبغض النظر عن أي سوء تقدير أو تصرف حدث يومًا، نشكر الله على نعمة كيان العائلة وعلى وجود أخ وأخت ماسكين إيدي كويس.