جدل لطيف يدور هذه الأيام حول عدد من المواد فى الدستور «المعدل» أو «الجديد»، سمِّه ما شئت. جدل يتشابه مع حوارات «المساطيل» التى اشتملت عليها رواية «ثرثرة فوق النيل» للراحل نجيب محفوظ. يتعلق الموضوع الأول للثرثرة بنسبة تمثيل العمال والفلاحين فى المجالس النيابية، وهل تبقى على ما هى عليه (50%) كما كان فى الدساتير الماضية أم تقل أم يتم إلغاؤها بالكلية. وفى تقديرى أن الجدل حول هذا الموضوع يعكس حالة الغيبوبة -وبلاش السطل- وكذلك الاغتراب المضحك عن الواقع الذى تحياه مصر منذ عدة عقود. فمن المضحك أن يتحدث أفاضل لجنة الخمسين عن نسبة للعمال فى دولة تبيع مشروعات القطاع العام منذ التسعينات، وتكاد تتوقف المشروعات الصناعية بها، بعد ضمور الاستثمارات فى هذا المجال، أما «المسخرة» الحقيقية فتتعلق بالحديث عن نسبة الفلاحين فى ظل ما تعرضت وتتعرض له التربة الزراعية فى مصر من تجريف وتبوير لاستغلالها فى الاستثمار العقارى وتشييد الكتل الخرسانية.
الكل يعرف أن شركات القطاع العام تتعرض لعملية تخريب ممنهج منذ عام 1991، وتباع فى سوق النخاسة المحلية والعربية، ويتم تشريد المصريين العاملين بها وإحالتهم إلى المعاش المبكر. إن بيع شركات القطاع العام أصبح حديث الصباح والمساء خلال العقدين الماضيين، ولعلك تعلم أن أكثر الشركات التى بيعت حصل عليها المشترى بثمن بخس (ملايين معدودات)، رغم أن بعضها يقيم بالمليارات، وفى الوقت الذى كانت تباع فيه الشركات بطرق ملتوية من أجل أن يتربح السماسرة من المسئولين ورجال الأعمال، كان يباع العمال أيضاً. وأنا أتعجب حقيقة من حالة التراخى التى تعامل بها بعض أعضاء لجنة الخمسين -وقت أن كانوا فى مواقع مسئولية- مع موضوع تشريد العمال وإهدار المال العام، فى الوقت الذى يشمرون فيه عن ساعد الجد الآن لمناقشة نسبة تمثيل العمال! ومن باب التذكرة دعنى أفيدك علماً بأن 115 شركة من شركات القطاع العام بيعت فى عهد حكومة الجنزورى الأولى (1996- 1999)، وقد اختاره المجلس العسكرى ليكون رئيساً للوزراء بعد ثورة 25 يناير، وهو الآن مستشار للرئيس المؤقت «عدلى منصور»!
أما تجريف الأراضى الزراعية فحدّث ولا حرج، فقد أصبح ديدن حياة الفلاح المصرى منذ الثمانينات تجريف الأرض وبيع خصبها، ليتركها للبوار حتى يغلو ثمنها عندما تدخل حزام العمران وتتطاول فوقها الكتل الخرسانية، ولتذهب الزراعة ولينسحق دورها فى توفير الغذاء للمصريين. كل هذا يحدث ثم يخرج علينا أفاضل «الخمسين» متحدثين عن حماية نسبة الفلاحين فى البرلمان، فى حين من المحتمل أن يتعرض الفلاحون المصريون للانقراض لو استمر مسلسل التجريف على ما هو عليه، أولى بكم أن تتحدثوا عن حماية التربة الزراعية ودعم الفلاح المصرى وتوعيته قبل أن يجرفه تيار «التجريف» الذى يكتسح الخصب فى طريقه. مشكلة من يضعون أو يعدلون الدستور فى مصر إنهم -ولا مؤاخذة- خواجات!