يراقب الشعب المصرى، بقلق، تطورات بناء سد النهضة، ويزعجه ما يتردد عن فشل المفاوضات بين دول النيل الثلاث (إثيوبيا، والسودان، ومصر) فى التوصل إلى اتفاق بخصوص مواصفات بناء السد وكيفية إدارته. ومع طول المفاوضات، يرسخ لدى الناس الانطباع بأن السد ضار بمصر ومصالحها، ويهدد بالانتقاص من نصيبها التقليدى من فيضان النيل، وينذر بجفاف الترع والمصارف، بل يعيد مصر إلى الصحراء، مهدداً بذلك الحياة كما نعرفها على ضفاف النهر الخالد.
وليس مستغرباً ما يولده هذا الانطباع المخيف من ردود فعل عنيفة لدى الرأى العام. ويذكر الجميع ذلك الاجتماع الكارثى الذى تم فى حضرة الرئيس المخلوع محمد مرسى، والذى استعرضت فيه النخبة السياسية والثقافية، على العلن فى بث مباشر، سيناريوهات الانتقام المختلفة من إثيوبيا. وهو ما كرّس لدى الجانب الإثيوبى ما يعتقده من تعالٍ وصلف يُظهره الجانب المصرى.
ويُحسب للرئيس عبدالفتاح السيسى أنه تعامل مع هذا الملف بصبر ورويّة، وأكد أن مصر ليست ضد مصالح الشعب الإثيوبى، وحقه فى استغلال موارده، بما لا يضير طبعاً بحقوق مصر التاريخية فى مياه النيل.
والواقع أن فرصة الخروج بحل إيجابى من المفاوضات تتمثل فى استيعاب حقائق الموقف، ومحاولة فهم موقف الخصم، والبحث عن حلول تفيد كل الأطراف. ليس هناك شك أن إثيوبيا أخطأت فى البداية فى البناء دون التشاور مع دول المصب، وبما يخالف اتفاقيات مياه النيل، والاتفاقيات الدولية الخاصة بالأنهار الدولية. واستغلت انشغال الشعب المصرى بأحداث 25 يناير 2011، مما ولّد إحساساً عميقاً لدينا بسوء النية المبيت. كذلك هناك مخاوف حقيقية بخصوص تصميم السد وإمكان تعرضه للتصدع فى حالة الزلازل وعدم مناسبة الموقع الجيولوجى المختار. ولقد أكدت هذه المخاوف دراسات مستقلة، من بينها بحث كبير لجامعة ماساتشوستس للتكنولوجيا MIT، وبحوث أخرى لخبراء (بعضهم من إثيوبيا ويعيشون فى الخارج) مستقلين. وأشارت هذه الدراسات، أيضاً، إلى أن عدم التنسيق بين الدول الثلاث يحرمها من فوائد مشتركة تنتج عن التناغم فى إدارة سد النهضة، وسد الروصيرص فى السودان، والسد العالى فى مصر.
ولعل الجانب الآخر فى هذه المعادلة الصعبة هو محاولة فهم منطق الجانب الإثيوبى. فإثيوبيا تدافع عن إقامة هذا السد بصفته إحدى ركائز التنمية هناك. وتقول إن الكهرباء التى ستولدها منه، وتبلغ 6000 ميجاوات، ستفيدها، وأيضاً الدول المجاورة. وإثيوبيا لا تنتج ما يكفيها من الكهرباء، ويعتمد الناس فى الأقاليم على إشعال الحطب فى أغراض الطهى وغلى المياه، مما تسبب فى تجريد مساحات هائلة من الغابات. كذلك فإن السد سيساهم فى تنظيم الفيضان فى النهر. ومن المعروف أن الفيضانات العالية تسببت فى غرق الأراضى والمدن المتاخمة للنهر، ومنها مدينة الخرطوم، عدة مرات فى الأزمنة القريبة. كذلك يساعد السد فى تخفيض كميات الطمى (أو الغرين) الذى يترسب أمام سد الروصيرص (السودانى) بما يزيد عمره الافتراضى.
ولعل النقطة الأهم فى التعامل مع سد النهضة هى تذكّر أن هذا السد، الذى تقول إثيوبيا إن بناء 80% من جسمه قد تم، أُنشئ أصلاً لتوليد الكهرباء. وبالتالى فالمياه المحتجزة أمام السد لا بد لها من المرور فى التوربينات والتدفق إلى السودان ومصر فى النهاية. أين المشكلة إذاً؟ المشكلة تتمثل فى الفترة الزمنية التى يتم فيها ملء الخزان. وإثيوبيا تستعجل ملء الخزان وتتفاوض على مدة قصيرة قد تكون 3 سنوات. ومصر والسودان تخشيان من تأثر حصتهما السنوية خلال هذه الفترة القصيرة، وتناديان بفترة أطول. وفى جميع الأحوال، يشير الخبراء إلى أنه يمكن لمصر أن تغطى العجز فى مياه الفيضان فى سنة معينة بالمخزون المتاح فى بحيرة ناصر، والذى يمكن تعويضه فى سنوات الفيضان العالى.
كيف يمكن إذاً الوصول إلى حل توافقى يرضى الجميع؟ لعل المبدأ الأول هو الإقرار بحصة مصر من المياه المحددة فى الاتفاقات الدولية، وثانياً، لا بد من التزام إثيوبيا بتعويض مصر عن أى رصيد تم صرفه من مخزون السد العالى أثناء ملء خزان «النهضة». وثالثاً الإقرار بحق إثيوبيا فى تنمية مواردها الداخلية بما لا يسبب ضرراً على دول المصب، وأخيراً الاتفاق على تنسيق إدارة السدود المصرية والسودانية والإثيوبية على النيل بما يعظّم الفائدة للجميع.
وهناك ضعف فى موقف إثيوبيا يمكن أن تستفيد منه مصر فى التوصل إلى حل مُرضٍ. ويتمثل هذا فى عدم توافر التمويل الكافى لإنهاء السد مع أعماله التكميلية. وتقدر تكلفة جسم السد وأعمال توليد الكهرباء بـ4٫2 مليار دولار، وهو مبلغ ضخم يضاهى حجم الميزانية السنوية للبلاد، ونحو 15% من الناتج المحلى للدولة. واستطاعت إثيوبيا أن تدبر معظم التمويل من إصدار سندات للمغتربين فى الخارج، وموّلت التوربينات من الشركة الصينية الموردة. ومع ذلك فإن ما تم جمعه من مال لا يشمل تكلفة إنشاء شبكة الجهد العالى التى ستوزع الكهرباء إلى الأقاليم والعاصمة الإثيوبية التى تبعد نحو 600 كم. ناهيك عن شبكة نقل الكهرباء إلى الدول المجاورة. ومن المتوقع أن يكلف إنشاء هذه الشبكة، فى الداخل والخارج، مبالغ طائلة، وقد تصل إلى مبلغ مماثل لتكلفة إنشاء السد نفسه.
وبدون شبكة توزيع الكهرباء لن يكون لإنشاء السد أى جدوى. والطرف الإثيوبى يكابر ويدّعى أن توليد الكهرباء سيتم هذا العام. مع ذلك الطريق ما زال طويلاً مع قلة المال والخبرة. ومصر تستطيع أن تساعد بما لها من خبرة كبيرة فى إنشاء شبكات توزيع الكهرباء، وهى تصنع أبراج الجهد العالى محلياً، وساهمت فى إقامة مشاريع مشابهة فى اليمن وغيرها من الدول العربية. لماذا لا نعرض على إثيوبيا إقامة هذه الشبكة، ونعرض أيضاً شراء جزء من الطاقة المولدة التى تفوق بمراحل قدرة إثيوبيا على استيعابها، وهى أرخص كثيراً من الطاقة الحرارية التى نولدها فى مصر. وفى هذه الحالة يمكن أن نتفاوض على فترة ملء الخزان.
وهكذا نرى أن معضلة سد النهضة يمكن التعامل معها بمنطق جديد يأخذ فى الحسبان الحقائق على الأرض وإمكانيات الكسب المشترك من تنسيق جدول تخزين المياه، والتعاون فى تصدير الكهرباء واستغلالها.
والله الموفق.