ليس من الشهامة الطعن فى رجل أصبح خارج السلطة بلا أى مظهر من مظاهر القوة والجاه، التى تمتع بها على مدار 30 عاماً، وليس من الأخلاق الدخول فى معركة مع رجل تجاوز التسعين ويقضى ما تبقى من عمره بين أبنائه وأحفاده فى منزل لا يغادره، وليس من العقل النظر إلى الوراء وإضاعة الوقت والمجهود فى جدل مفتعل حول مرحلة انتهت تماماً بما لها وعليها، لكن للأسف الشديد البعض يصر على أن يجرّ الآخرين إلى محطة قديمة غادرها قطار الزمن، واللعب بصبيانية شديدة فى وحل الماضى، ولأنه، كما قال الأديب الكبير نجيب محفوظ «آفة حارتنا النسيان»، فإننا ننسى حقيقة هذا الماضى، ونجتزئ من الذاكرة ما يخدم مواقفنا فقط دون مراعاة لأى سياق أو ظروف محيطة أو تقييم جاد وموضوعى.
يقولون فى زيف وخداع ربما، أو لعدم فهم وقصور معرفة ربما: «ولا يوم من أيامك يا مبارك».. يقولونها بالفُم المليان، والحقيقة أنهم أصابوا القول، فعلاً ولا يوم واحد من أيامك يا مبارك، ولا يوم واحد من الثلاثين عاماً التى ضاعت ومرت دون أن تشهد هذه البلاد أى نقلة حقيقية على أى مستوى من المستويات، بداية من الصناعة والزراعة والاستثمار، مروراً بملفات حيوية، مثل الصحة والتعليم والبحث العلمى، وصولاً إلى ملف التنوير والوعى العام الذى ظل مغلقاً طيلة ثلاثة عقود متتالية، بينما كانت جماعات التطرف والتشدد والغلو تنهش فى جسد المجتمع حتى حوّلته إلى رداء تملؤه الثقوب.
ولا يوم واحد من أيامك يا مبارك، التى ورثنا منها هذا الجهاز الإدارى المترهل المريض الفاشل، وهذه العشوائيات الموقوتة فى كل مكان، وهذه المؤسسات التى عشش فيها الفساد وتكاثر وتشابكت خيوطه، مثل بيوت العناكب، وهذه المدارس والجامعات التى لم تعد تقدم تعليماً ولا تربية وتحولت شيئاً فشيئاً إلى مبانٍ أشبه بالمسخ، تمنح طلابها شهادات وهمية لا تساوى قيمة الحبر الذى كُتبت به.
فى 14 أكتوبر 1981 تسلم «مبارك» السلطة، وفى 11 فبراير 2011 ودع «مبارك» السلطة، فترة زمنية طويلة مستقرة بلا حرب فى الخارج ولا فوضى فى الداخل تمنح أى حاكم مهما كانت مؤهلاته ضعيفة فرصة أن يجرب، ثم يتعلم، ثم يصحح، ثم يدفع بلاده إلى الأمام. لكن الرئيس الأسبق -الذى أدعو له بالشفاء والعافية وطيلة العمر- لم يفعل ذلك قط. تسلم مصر 40 مليون مواطن بموارد محدودة وإمكانيات ضعيفة بعد ثمانى سنوات من الحرب، وسلمها مصر 90 مليون مواطن بنفس الموارد المحدودة وإمكانيات أكثر ضعفاً بعد 30 سنة من الحكم. 30 سنة بلا حد أدنى من الشجاعة لمواجهة التحديات الكبيرة، 30 سنة بلا حد أدنى من الخيال والتصور لمستقبل البلاد، 30 سنة ورثنا تركتها الثقيلة المحملة بالأعباء والثقوب بعد ثورة 25 يناير، ثم زادت التركة ثقلاً بعد سنوات السيولة التى أعقبت الثورة، العالم كله كان يجرى للأمام، بينما نحن كنا نجرى فى الثبات أو ربما نجرى إلى الخلف، دول انتقلت من الصفر إلى مقاعد الكبار، مثل البرازيل التى احتاجت 10 سنوات فقط، هى ثلث عهد مبارك الأخير للخروج من عنق الزجاجة، بينما نحن لم تكفنا هذه المدة مضروبة فى ثلاثة لنقطع نفس الطريق أو حتى نصفه أو ربعه.
مضت عقود مبارك الثلاثة، ومضت سنوات السيولة التى أعقبتها، ثم فجأة استيقظنا، وفجأة ننتظر أن تُحل جميع المشكلات المزمنة بضغطة زر هنا وأخرى هناك، نطالب بتسديد فاتورة السنوات الطويلة على قسط واحد مخفف سريع لا يحمل عبأه أحد.. وإلا سوف نصرخ هوساً ونردد كذباً: «ولا يوم من أيامك»!